فصل: فصل: في جواز إجارة المرأة وأمانها للرجل والرجلين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في هل يُضرب الخَراجُ على مزارع مكة أم لا‏؟‏

فإذا كانت مكةُ قد فُتِحَتْ عَنوة، فهل يُضرب الخراجُ على مزارعها كسائر أرض العَنوة، وهل يجوز لكم أن تفعلوا ذلك أم لا‏؟‏

قيل‏:‏ في هذه المسألة قولان لأصحاب العَنوة‏:‏

أحدهما‏:‏ المنصوصُ المنصور الذي لا يجوز القولُ بغيره، أنه لا خَراج على مزارعها وإن فتحت عَنوة، فإنها أجَلُّ وأعظم من أن يُضرب عليها الخَراج، لا سيما والخَراجُ هو جزية الأرض، وهو على الأرض كالجزية على الرؤوس، وحرَمُ الرَّبِّ أجَلُّ قَدراً وأكبرُ من أن تُضرب عليه جزية، ومكة بفتحها عادت إلى ما وضعها الله عليهِ مِن كونها حرماً آمناً يشترِكُ فيه أهلُ الإسلام، إذ هو موضع مناسِكهم ومتعبدهم وقِبْلةُ أهل الأرض‏.‏

والثانى وهو قول بعض أصحاب أحمد أن على مزارعها الخَراج، كما هو على مزارع غيرها من أرض العَنوة، وهذا فاسد مخالف لنص أحمد رحمه الله ومذهبه، ولفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين مِن بعده رضى الله عنهم، فلا التفات إليه‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد بنى بعضُ الأصحاب تحريمَ بيع رِباع مكَّة على كونها فُتِحَتْ عَنوة، وهذا بناء غيرُ صحيح، فإن مساكن أرض العَنوة تُباع قولاً واحداً، فظهر بطلان هذا البناء‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ تعيينُ قتلِ السَّابِّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن قتله حدٌ لا بُدَّ من استيفائه، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يُؤمِّن مقيسَ بنَ صُبابة، وابن خطل، والجاريتين اللَّتين كانتا تُغنِّيان بهجائه، مع أن نساء أهل الحرب لا يُقتلن كما لا تُقتل الذُرِّية، وقد أمر بقتل هاتين الجاريتين، وأهدر دم أُمِّ ولد الأعمى لما قتلها سيدُها لأجل سبِّها النبى صلى الله عليه وسلم، وقتل كعب بن الأشرف اليهودى، وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ لِكَعْب فإنَّهُ قَدْ آذى اللهَ ورَسُولَهُ‏)‏، وكان يسبه، وهذا إجماعٌ من الخلفاء الراشدين، ولا يُعلم لهم في الصحابة مخالفٌ، فإن الصِّدِّيقَ رضى الله عنه قال لأبى برزة الأسلمى وقد همَّ بقتل مَن سبَّه‏:‏ لم يكن هذا لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرَّ عمر رضى الله عنه براهب، فقيل له‏:‏ هذا يسبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ لو سمعته لقتلتُه، إنَّا لم نعطهم الذِّمَّة على أن يسبُّوا نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولا ريبَ أن المحاربة بسَبِّ نبينا أعظمُ أذيَّةً ونِكاية لنا من المحاربة باليد، ومنع دينار جزيةٍ في السنة، فكيف يُنقض عهدُه ويُقتل بذلك دون السبِّ، وأىُّ نسبة لمفسدة منعه ديناراً في السنة إلى مفسدة منع مجاهرته بسَبِّ نبينا أقبحَ سبّ على رؤوس الأشهاد، بل لا نِسبة لمفسدة محاربته باليد إلى مفسدة محاربته بالسبِّ، فأولى ما انتقض به عهدُه وأمانُه سبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينتقض عهدُه بشىء أعظمَ مِنه إلا سبَّه الخالق سبحانه، فهذا محضُ القِياس، ومقتضى النصوص، وإجماعُ الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم وعلى هذه المسألة أكثرُ من أربعين دليلاً‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يقتُلْ عبد الله بن أُبَىّ وقد قال‏:‏ لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، ولم يقتل ذَا الخُويصرة التميمى وقد قال له‏:‏ اعْدِلْ فإنَّكَ لم تَعْدِلْ، ولم يقتل مَن قال له‏:‏ يقولون‏:‏ إنك تنهى عن الغى وتستخلى به، ولم يقتل القائل له‏:‏ إنَّ هذِهِ القِسْمَةَ ما أُرِيدَ بهَا وجْهُ اللهِ، ولم يقتل مَن قال له لما حكم للزبير بتقديمه في السقى‏:‏ أن كان ابنَ عمتك، وغيرُ هؤلاء ممن كان يبلُغه عنهم أذى له وتنقُّص‏.‏

قيل‏:‏ الحقُّ كان له فله أن يستوفِيَهِ، وله أن يُسْقِطَه، وليس لمن بعده أن يُسْقِطَ حقَّه، كما أن الربَّ تعالى له أن يَستوفى حقَّه، وله أن يُسقِطَ، وليس لأحد أن يُسْقِطَ حقَّه تعالى بعد وجوبه، كيف وقد كان في ترك قتل من ذكرتُم وغيرهم مصالحُ عظيمة في حياته زالت بعد موته مِن تأليف الناس، وعدم تنفيرهم عنه، فإنه لو بلغهم أنه يقتُلُ أصحابَه، لنفروا، وقد أشار إلى هذا بعينه، وقال لعمر لما أشار عليه بقتل عبد الله بن أُبَىّ‏:‏ ‏(‏لاَ يَبْلُغُ النَّاسَ أنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصْحَابه‏)‏‏.‏

ولا ريب أن مصلحةَ هذا التأليف، وجمعَ القلوب عليه كانت أعظمَ عنده وأحبَّ إليه مِن المصلحة الحاصلة بقتل مَن سبَّه وآذاه، ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل، وترجَّحت جداً، قتل السابَّ، كما فعل بكعب بن الأشرف، فإنه جاهر بالعداوة والسَّبِّ فكان قتلُه أرجحَ من إبقائه، وكذلك قتلُ ابنِ خَطَل، ومقيس، والجاريتين، وأُم ولدِ الأعمى، فَقَتَلَ للمصلحة الراجحة، وكفَّ للمصلحة الراجحـة، فإذا صار الأمر إلى نُوَّابه وخلفائه، لم يكن لهم أن يُسقطوا حقه

فيما في خطبته العظيمة ثانى يوم الفتح من أنواع العلم

فمنها قولُه‏:‏ ‏(‏إنَّ مَكَّة حَرَّمَها اللهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ‏)‏، فهذا تحريمٌ شرعى قَدَرى سبق به قدرُه يومَ خلق هذا العالَم، ثم ظهر به على لسان خليله إبراهيم، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما كما في ‏(‏الصحيح‏)‏ عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهيمَ خَليلَكَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وإنِّى أُحرِّمُ المدِينَة‏)‏، فهذا إخبارٌ عن ظهور التحريم السابق يومَ خلق السمواتِ والأرضَ على لسان إبراهيم، ولهذا لم يُنازع أحد من أهل الإسلام في تحريمها، وإن تنازعُوا في تحريم المدينة، والصوابُ المقطوعُ به تحريمُها، إذ قد صحَّ فيه بضعةٌ وعِشرونَ حديثاً عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا مطعن فيها بوجه‏.‏

ومنها‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏فلا يَحلُّ لأَحَدٍ أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمَاً‏)‏، هذا التحريمُ لسفك الدم المختصِّ بها، وهو الذي يُباح في غيرها، ويُحرم فيها لكونها حرماً، كما أن تحريم عَضْدِ الشجر بها، واختلاء خلائها، والتقاط لُقطتها، هو أمر مختصٌ بها، وهو مباحٌ في غيرها، إذ الجميعُ في كلام واحد، ونظام واحد، وإلا بطلت فائدة التخصيص، وهذا أنواعٌ‏:‏

أحدها وهو الذي ساقه أبو شريح العدوى لأجله ‏:‏ أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تُقاتَل، لا سيما إن كان لها تأويل، كما امتنع أهلُ مكة مِن مبايعة يزيد، وبايعُوا ابنَ الزبير، فلم يكن قِتالهُم، ونصبُ المنجنيق عليهم، وإحلالُ حَرَمِ الله جائزاً بالنص والإجماع، وإنما خالف في ذلك عمرو بن سعيد الفاسق وشيعتُه، وعارض نصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وهواه، فقال‏:‏ إنَّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِياً، فيقال له‏:‏ هو لا يُعيذ عاصياً مِن عذاب الله، ولو لم يُعِذْه من سفك دمه، لم يكن حرماً بالنسبة إلى الآدميين، وكان حرماً بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم، وهو لم يزل يُعيذُ العصاةَ مِن عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامُه، وقام الإسلام على ذلك، وإنما لم يُعِذ مقيس ابن صُبابة، وابن خَطَل، ومَن سُمِّىَ معهما، لأنه في تلك الساعة لم يكن حَرَماً، بل حِلاً، فلما انقضت ساعةُ الحرب، عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السموات والأرضَ‏.‏ وكانت العربُ في جاهليتها يرى الرجلُ قاتِلَ أبيه، أو ابنه في الحرم، فلا يَهيجُه، وكان ذلك بينهم خاصية الحرم التي صار بها حرماً، ثم جاء الإسلام، فأكَّدَ ذلك وقوَّاه، وعلم النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن مِن الأُمة مَن يتأسَّى به في إحلاله بالقتال والقتل، فقطع الإلحاق، وقال لأصحابه‏:‏ ‏(‏فإنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقولوا‏:‏ إنَّ الله أذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكَ‏)‏، وعلى هذا فَمَن أتى حداً أو قِصاصاً خارِجَ الحرم يُوجِبُ القتل، ثم لجأ إليه، لم يَجُزْ إقامتُه عليه فيه، وذكر الإمام أحمد عن عمرَ بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال‏:‏ لو وجدتُ فيه قاتِلَ الخطاب ما مَسِسْتُه حتَّى يخرُجَ منه‏.‏ وذُكِر عن عبد الله بن عمر أنه قال‏:‏ لو لقيتُ فيه قاتِلَ عمر مَا نَدَهْتُه، وعن ابن عباس، أنه قال‏:‏ لو لقيتُ قاتِلَ أبى في الحرم ما هِجتُه حتى يخرُجَ منه، وهذا قولُ جمهورِ التابعين ومَنْ بعدهم، بل لا يُحفظ عن تابعىّ ولا صحابىّ خلافُه، وإليه ذهب أبو حنيفةَ ومَنْ وافقه من أهل العراق، والإمامُ أحمد ومَنْ وافقه مِن أهل الحديث‏.‏

وذهب مالك والشافعىُّ إلى أنه يُستوفى منه في الحرم، كما يُستوفى منه في الحِلِّ، وهو اختيارُ ابن المنذر، واحتج لهذا القول بعمومِ النُّصوص الدالة على استيفاء الحدودِ والقِصاص في كُلِّ مكانٍ وزمانٍ، وبأن النبىَّْ صلى الله عليه وسلم قتل ابن خَطَل، وهو متعلِّق بأستار الكعبة، وبما يُروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنَّ الحَرَمَ لاَ يُعيذُ عَاصِياً وَلاَ فَاراً بِدَمٍ وَلاَ بِخَرْبَةٍ‏)‏، وبأنه لو كان الحدودُ والقِصاصُ فيما دونَ النفسِ، لم يُعِذْهُ الحرم، ولم يمنعه من إقامته عليه، وبأنه لو أتى فيه بما يُوجب حداً أو قِصاصاً، لم يعذه الحرم، ولم يَمنع من إقامته عليه، فكذلك إذا أتاه خارِجَه، ثم لجأ إليه، إذ كونُه حَرَماً بالنسبة إلى عصمته، لا يختلِفُ بين الأمرين، وبأنه حيوان أُبيح قتلُه لِفساده، فلم يفترِق الحالُ بين قتله لاجئاً إلى الحرم، وبين كونه قد أوجب ما أُبيح قتلُه فيه، كالحيَّة، والحِدَأةِ، والكَلْبِ العَقُور، ولأن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خَمْسٌ فَواسِقُ يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَم‏)‏، فنبَّه بقتلهن في الحِلِّ والحَرَم على العِلَّة، وهى فسقُهن، ولم يجعل التجاءَهن إلى الحرم مانِعاً مِن قتلهن، وكذلك فاسق بنى آدم الذي قد استوجب القتلَ‏.‏

قال الأوَّلون‏:‏ ليس في هذا ما يُعارِضُ ما ذكرنا من الأدلة ولا سيما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخُلْفِ في خبره تعالى، وإما خبرٌ عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه، وإما إخبارٌ عن الأمرِ المعهود المستمِرِّ في حرمه في الجاهلية والإسلام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 67‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ إن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏ وما عدا هذا من الأقوال الباطلة، فلا يُلتفت إليه، كقول بعضهم‏:‏ ومَن دخله كان آمناً مِن النار، وقول بعضهم‏:‏ كان آمناً مِن الموت على غير الإسلام، ونحو ذلك، فكم ممن دخله، وهو في قعر الجحيم‏.‏

وأما العموماتُ الدالة على استيفاء الحدودِ والقِصاص في كل زمان ومكان، فيقال أولاً‏:‏ لا تعرُّضَ في تلك العموماتِ لِزمان الاستيفاء، ولا مكانه، كما لا تعرُّضَ فيها لشروطه وعدم موانعه، فإن اللَّفظ لا يدل عليها بوضعه ولا بتضمُّنه، فهو مطلَقٌ بالنسبة إليها، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع، لم يُقَلْ‏:‏ إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام، فلا يقول محَصِّل‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ مخصوص بالمنكوحة في عِدَّتها، أو بغير إذن وليها، أو بغير شهود، فهكذا النصوصُ العامة في استيفاء الحدود والقِصاص لا تعرُّض فيها لزمنه، ولا مكانه، ولا شرطه، ولا مانعه، ولو قُدِّر تناول اللَّفظ لذلك، لوجب تخصيصُه بالأدلة الدالة على المنع، لئلا يبطُل موجبها، ووجب حملُ اللَّفظ العام على ما عداها كسائِر نظائره، وإذا خصصتُم تلك العموماتِ بالحامل، والمرضِعِ، والمريض الذي يُرجى برؤه، والحال المحرمةِ للاستيفاء، كشِدَّةِ المرض، أو البردِ، أو الحر، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة‏؟‏ وإن قلتم‏:‏ ليس ذلك تخصيصاً، بل تقييداً لمطلقها، كِلنا لكم بهذا الصاع سواء بسواء‏.‏

وأما قتلُ ابن خَطَل، فقد تقدَّم أنه كان في وقت الحِلِّ، والنبى صلى الله عليه وسلم قطع الإلحاق، ونصَّ على أن ذلك مِن خصائصه، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وإنَّمَا أُحِلَّت لى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ‏)‏ صريح في أنه إنما أُحِلَّ له سفكُ دمٍ حلال في غيرِ الحرم في تلك الساعة خاصة، إذ لو كان حلالاً في كل وقت، لم يختصَّ بتلك الساعة، وهذا صريحٌ في أن الدم الحلالَ في غيرها حرام فيها، فيما عدا تلك الساعة، وأما قوله‏:‏ ‏(‏الحَرَمُ لا يُعِيذُ عَاصِياً‏)‏ فهو مِن كلام الفاسِق عمرو بن سعيد الأشدق، يردُّ به حديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حِين روى له أبو شُريح الكعبى هذا الحديث، كما جاء مبيناً في ‏(‏الصحيح‏)‏ فكيف يُقَدَّمُ علَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما قولُكم‏:‏ لو كان الحدُّ والقِصاصُ فيما دون النفس، لم يُعِذْهُ الحرمُ منه، فهذه المسألةُ فيها قولان للعلماء، وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد، فمَن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصِمة بالنسبة إلى النفس وما دونها، ومَن فرَّق، قال‏:‏ سفكُ الدم إنما ينصِرفُ إلى القتل، ولا يلزمُ من تحريمه في الحرم تحريمُ ما دونَه، لأن حُرمة النفس أعظم، والانتهاك بالقتل أشدُّ، قالوا‏:‏ ولأن الحد بالجَلْد أو القطع يجرى مجرى التأديب، فلم يمنع منه كتأديب السَّـيِّدِ عبدَه، وظاهرُ هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس وما دُونها في ذلك، قال أبو بكر‏:‏ هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمِّه، أن الحدود كلَّها تُقام في الحرم إلا القتل، قال‏:‏ والعمل على أن كل جانٍ دخل الحرمَ لم يقُم عليه الحدُّ حتى يخرُجَ منه، قالوا‏:‏ وحينئذ فنجيبُكم بالجواب المركَّب، وهو أنه إن كان بينَ النفس وما دونَها في ذلك فرق مؤثر، بطل الإلزام، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر، سوَّينا بينهما في الحكم، وبطل الاعتراض، فتحقق بطلانُه على التقديرين‏.‏

قالوا‏:‏ وأما قولكم‏:‏ إن الحرمَ لا يُعيذ مَن انتهكَ فيه الحُرمةَ إذ أتى فيه ما يُوجب الحد، فكذلك اللاجىء إليه، فهو جمعُ بينَ ما فَرَّقَ اللهُ ورسُوله والصحابةُ بينهما، فروى الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏مَنْ سَرَقَ أو قَتَلَ في الحِلِّ ثُمَّ دَخَلَ الحَرَمَ، فإنَّه لا يُجَالَسُ ولا يُكَلَّمُ، ولا يُؤوى، ولكنَّهُ يُناشَدُ حَتَّى يَخْرُجَ، فَيُؤْخَذَ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ الحَدُّ، وَإنْ سَرَقَ أَو قَتَلَ في الحَرَمِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ في الحَرَم‏)‏‏.‏ وذكر الأثرم، عن ابن عباس أيضاً‏:‏ منْ أحدَثَ حَدَثاً في الحَرَمِ، أُقِيمَ عليهِ ما أَحْدَثَ فيهِ من شىء، وقد أمر الله سبحانه بقتل مَنْ قاتل في الحرم، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُم‏}‏‏.‏‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏

والفرق بين اللاجئ والمتهتِك فيه من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الجانى فيه هاتكٌ لحُرمته بإقدامه على الجِنَاية فيه، بخلاف مَنْ جَنَى خارِجَه ثم لجأ إليه، فإنَّه معظِّمٌ لحُرمته مستشعِرٌ بها بالتجائه إليه، فقياس أحدهما على الآخر باطلٌ ‏.‏

الثانى‏:‏ أن الجانى فيه بمنزلة المفسد الجانى على بساطِ الملك في دارِهِ وحَرَمِه، ومَنْ جنى خارِجَه، ثم لجأ إليه، فإنَّه بمنزلة مَن جَنَى خارِجَ بِساط السلطانِ وحَرَمِه، ثم دخل إلى حَرَمِه مستجيراً ‏.‏

الثالث‏:‏ أن الجانى في الحرم قد انتهك حُرمة الله سبحانه، وحُرمة بيته وحَرَمه، فهو هاتِك لحُرمتين بخلاف غيره ‏.‏

الرابع‏:‏ أنه لو لم يُقم الحدُّ على الجُنَاة في الحرم، لعمَّ الفسادُ، وعَظُمَ الشَّرُّ في حرم الله، فإن أهلَ الحرم كغيرهم في الحاجة إلى صِيانة نفوسهم، وأموالهم، وأعراضهم، ولو لم يُشرع الحد في حقِّ مَن ارتكب الجرائم في الحرم، لتعطلت حدودُ الله، وعمَّ الضررُ للحرم وأهله ‏.‏

والخامس‏:‏ أن اللاجىء إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجىء إلى بيت الرب تعالى، المتعلق بأستاره، فلا يُناسب حالُه ولا حالُ بيته وحرمه أن يُهاج، بخلاف المُقْدِم على انتهاك حُرْمته، فظهر سِرُّ الفرق، وتبيَّن أن ما قاله ابن عباس هو محضُ الفقه ‏.‏

وأما قولُكم‏:‏ إنه حيوان مفسد، فأُبيحَ قتلُه في الحِلِّ والحَرَمِ كالكلبِ العَقور، فلا يَصِحُّ القياسُ، فإن الكلبَ العقور طبعُه الأذى، فلم يُحرمه الحرمُ ليدفع أذاه عن أهله، وأما الآدمىُّ فالأصل فيه الحُرْمةُ، وحُرْمتُه عظيمة، وإنما أُبيحَ لِعارض، فأشبه الصائلَ مِن الحيوانات المباحة مِن المأكولات، فإن الحرم يَعْصِمُهَا ‏.‏

وأيضاً فإن حاجةَ أهلِ الحرم إلى قتل الكلب العَقُور، والحيَّة، والحِدَأة كحاجة أهل الحِلِّ سواء، فلو أعاذها الحرم لَعظُمَ عليهم الضررُ بها ‏.‏

فصل‏:‏ في تحريم قطع شجر مكة

ومنها‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولا يُعْضَدُ بِهَا شَجَرٌ‏)‏، وفى اللَّفظ الآخر‏:‏ ‏(‏ولا يُعْضَدُ شَوْكُهَا‏)‏، وفى لفظ في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ ‏(‏ولاَ يُخْبَطُ شَوْكُهَا‏)‏ لا خلاف بينهم أن الشجر البرىَّ الذي لم يُنْبِتْهُ الآدمىُّ على اختلاف أنواعه مراد من هذا اللَّفظ، واختلفوا فيما أنبته الآدمىُّ مِن الشجر في الحرم على ثلاثة أقوال، وهى في مذهب أحمد‏:‏

أحدها‏:‏ أن له قلعَه، ولا ضمانَ عليه، وهذا اختيارُ ابن عقيل، وأبى الخطاب، وغيرهما‏.‏

والثانى‏:‏ أنه ليس له قلعُه، وإن فعل، ففيه الجزاءُ بكل حال، وهو قولُ الشافعى، وهو الذي ذكره ابن البناء في ‏(‏خصاله‏)‏‏.‏

الثالث‏:‏ الفرق بين ما أنبته في الحِلِّ، ثم غرسَه في الحرم، وبين ما أنبته في الحَرم أوَّلاً، فالأول‏:‏ لا جزاء فيه، والثانى‏:‏ لا يُقلع وفيه الجزاء بكل حال، وهذا قول القاضى‏.‏

وفيه قول رابع‏:‏ وهو الفرقُ بين ما يُنبت الآدمى جنسه كاللَّوز والجَوز، والنخل، ونحوه، وما لا يُنبت الآدمى جنسه كالدَّوح، والسَّلَم، ونحوه، فالأول يجوز قلعُه ولا جزاء فيه، والثانى‏:‏ لا يجوزُ، وفيه الجزاء‏.‏

قال صاحب ‏(‏المغنى‏)‏‏:‏ والأولى الأخذ بعُموم الحديث في تحريم الشجر كُلِّه، إلا ما أنبتَ الآدمىُّ مِن جنس شجـرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع، والأهلى من الحيوان، فإننا إنما أخرجنا مِن الصيد ما كان أصلُه إنسياً دون ما تأنَّسَ مِن الوحشى، كذا ههنا، وهذا تصريح منه باختيار هذا القول الرابع، فصار في مذهب أحمد أربعةُ أقوال‏.‏

والحديث ظاهر جداً في تحريم قطع الشوك والعَوْسَج، وقال الشافعى‏:‏ لا يحرُم قطعه، لأنه يُؤذى الناس بطبعه، فأشبه السباع، وهـذا اختيارُ أبى الخطاب، وابن عقيل، وهو مروى عن عطاء ومجاهد وغيرهما‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يُعْضَدُ شَوْكُهًَا‏)‏،وفى اللَّفظ الآخر‏:‏ ‏(‏لا يُخْتَلَى شَوْكُهَا‏)‏ صريح في المنع، ولا يَصِحُّ قياسُه على السباع العادِية، فإن تلك تَقْصِدُ بطبعها الأذى، وهذا لا يُؤذى مَن لم يَدْنُ منه‏.‏

والحديثُ لم يُفرِّق بين الأخضر واليابس، ولكن قد جوَّزُوا قَطْعَ اليابس، قالوا‏:‏ لأنه بمنزلة الميت، ولا يُعرف فيه خلاف، وعلى هذا فسياقُ الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر، فإنه جعله بمنزلة تنفير الصيد، وليس في أخذ اليابسِ انتهاكُ حُرمة الشجرة الخضراء التي تُسبِّحُ بحمدِ ربِّها، ولهذا غرس النبىُّ صلى الله عليه وسلم على القبرين غُصنين أخضرين، وقال‏:‏ ‏(‏لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا‏)‏‏.‏

وفى الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرةُ بنفسها، أو انكسر الغصنُ، جاز الانتفاعُ به، لأنه لم يَعْضُدْهُ هوَ، وهذا لا نزاع فيه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقولون فيما إذا قلعها قالِع، ثم تركها، فهل يجوز له أو لِغيره أن ينتفع بها‏؟‏

قيل‏:‏ قد سُئِل الإمام أحمد عن هذه المسألة، فقال‏:‏ مَن شبَّهه بالصيد، لم ينتفع بحطبها، وقال‏:‏ لم أسمع إذا قطعه ينتفِعُ به‏.‏ وفيه وجه آخر، أنه يجوز لغير القاطع الانتفاعُ به، لأنه قُطِع بغير فعله، فأُبيح له الانتفاعُ به كما لو قلعته الريح، وهذا بخلاف الصيد إذا قتله مُحْرم حيث يَحْرُمُ على غيره، فإنَّ قَتْلَ المُحْرم له جعله ميتةً‏.‏ وقوله في اللَّفظ الآخر ‏(‏ولا يُخْبَطُ شَوْكُها‏)‏ صريح أو كالصريح في تحريم قطع الورق، وهذا مذهبُ أحمد رحمه الله، وقال الشافعى‏:‏ له أخذه، ويُروى عن عطاء، والأول أصحُّ لظاهر النصِّ والقياس، فإن منزلته من الشجرة منزلةُ ريش الطائر منه، وأيضاً فإن أخذ الورق ذريعة إلى يبس الأغصان، فإنه لباسُها ووقايتُها‏.‏

فصل‏:‏ لا يقلع حشيش مكة ما دام رطبا

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولا يُخْتَلَى خلاها‏)‏ لا خلاف أن المراد مِن ذلك ما يَنْبُتُ بنفسه دون ما أنبته الآدميون، ولا يدخل اليابسُ في الحديث، بل هو للرَّطبِ خاصة، فإن الخلا بالقصر‏:‏ الحشيش الرطب ما دام رطباً، فإذا يبس، فهو حشيش، وأخلتِ الأرض، كَثُرَ خَلاها، واخْتلاء الخَلى‏:‏ قطعه، ومنه الحديث‏:‏ كان ابن عمر يَخْتَلِى لِفرسه، أى‏:‏ يقطع لها الخَلى، ومنه سميت المِخلاة‏:‏ وهى وعاء الخَلى، والإذخر‏:‏ مستثنى بالنص، وفى تخصيصه بالاستثناء دليل على إرادة العموم فيما سواه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهل يتناول الحديثُ الرعى أم لا‏؟‏

قيل‏:‏ هذا فيه قولان، أحدهما‏:‏ لا يتناولُه، فيجوز الرعىُ، وهذا قولُ الشافعىوالثانى‏:‏ يتناولُه بمعناه، وإن لم يتناوله بلفظه، فلا يجوز الرعى، وهو مذهب أبى حنيفة، والقولان لأصحاب أحمد‏.‏

قال المحرِّمون‏:‏ وأىُّ فرق بين اختلائه وتقديمه للدابة، وبين إرسالِ الدابة عليه ترعاه‏؟‏

قال المبيحون‏:‏ لما كانت عادةُ الهَدَايا أن تدخل الحَرَم، وتكثُر فيه، ولم يُنقل قطُّ أنها كانت تُسَدُّ أفواهُها، دل على جواز الرعى‏.‏

قال المحرِّمون‏:‏ الفرقُ بين أن يُرسلها ترعى، ويُسلطها على ذلك، وبين أن تَرعى بطبعها مِن غير أن يُسلِّطَهَا صاحِبُهَا، وهو لا يجب عليه أن يَسُدَّ أفواهها، كما لا يجب عليه أن يَسُدَّ أنفَه في الإحرام عن شمِّ الطيب، وإن لم يجز له أن يتعمَّد شمَّه، وكذلك لا يجبُ عليه أن يمتنع من السير خشية أن يُوطئ صيداً في طريقه، وإن لم يجز له أن يقصد ذلك، وكذلك نظائرهُ‏.‏ فإن قيل‏:‏ فهل يدخُلُ في الحديث أخذ الكمأة والفقع، وما كان مغيباً في الأرض‏؟‏

قيل‏:‏ لا يدخل فيه، لأنه بمنزلة الثمرة، وقد قال أحمد‏:‏ يُؤكل من شجر الحرم الضغابيسُ والعِشْرِق‏.‏

فصل‏:‏ في النهى عن تنفير صيدها

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا‏)‏ صريحٌ في تحريم التسبُّب إلى قتل الصيد واصطيادِهِ بكل سبب، حتى إنه لا يُنفِّره عن مكانه، لأنه حيوان محترَم في هذا المكان، قد سبق إلى مكان، فهو أحقُّ به، ففى هذا أن الحيوان المحترم إذا سبق إلى مكان، لم يُزعج عنه ‏.‏

فصل‏:‏ في تحريم لُقَطَة الحرم

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَها إلا مَنْ عَرَّفَهَا‏)‏‏.‏ وفى لفظ‏:‏ ‏(‏ولاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلاَّ لِمُنْشِدٍ‏)‏، فيه دليل على أن لُقَطَةَ الحرم لا تُملك بحال، وأنها لا تُلتقط إلا للتعريف لا للتمليكِ، وإلا لم يكن لِتخصيص مكة بذلك فائدة أصلاً، وقد اختُلِفَ في ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ لُقَطَةُ الحِلِّ والحَرَم سواء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وأحدُ قولى الشافعى، ويُروى عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة رضى الله عنهم، وقال أحمد في الرواية الأخرى، والشافعى في القول الآخر‏:‏ لا يجوز التقاطُها للتمليك، وإنما يجُوز لِحفظها لِصاحبها، فإن التقطها، عرَّفها أبداً حتى يأتى صَاحبُها، وهذا قول عبد الرحمن بن مهدى، وأبى عُبيد، وهذا هو الصحيح، والحديثُ صريحٌ فيه، والمُنشِدُ‏:‏ المعرِّف‏.‏ والناشد‏:‏ الطالب، ومنه قوله‏:‏

ـ إصَاخَة الناشِدِ لِلمُنْشِدِ ـ

وقد روى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ أن النَبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الحَاجِّ‏)‏، وقال ابنُ وهب‏:‏ يعنى يترُكُها حتى يَجِدَها صاحبُها‏.‏

قال شيخنا‏:‏ وهذا من خصائص مكة، والفرقُ بينها وبين سائر الآفاق في ذلك، أن الناس يتفرَّقون عنها إلى الأقطار المختلفة، فلا يتمكن صاحبُ الضالةِ مِن طلبها والسؤالِ عنها، بخلاف غيرها من البلاد‏.‏

فصل‏:‏ في الواجب بقتل العمد

وقوله صلى الله عليه وسلم في الخطبة‏:‏ ‏(‏ومَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ‏)‏ فيه دليل على أن الواجب بقتل العمدِ لا يتعيَّن في القِصاص، بل هُو أحدُ شيئين‏:‏ إما القِصاصُ، وإما الدِّيَةُ ‏.‏

وفى ذلك ثلاثة أقوال‏:‏ وهى روايات عن الإمام أحمد ‏.‏

أحدها‏:‏ أن الواجب أحد شيئين، إما القِصاصُ، وإما الدِّيَةُ، والخيرةُ في ذلك إلى الولى بين أربعة أشياء‏:‏ العفوِ مجاناً، والعفوِ إلى الدِّيَةِ، والقِصاصِ، ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة ‏.‏ والرابع‏:‏ المصالحة على أكثر من الدِّيَةِ، فيه وجهان ‏.‏ أشهرهما مذهباً‏:‏ جوازه ‏.‏ والثانى‏:‏ ليس له العفو على مال إلا الدِّيَة أو دونها، وهذا أرجحُ دليلاً، فإن اختار الدِّيَة، سقط القودُ، ولم يملِكْ طلبَه بعد، وهذا مذهبُ الشافعى، وإحدى الروايتين عن مالك ‏.‏

والقول الثانى‏:‏ أن موجِبَه القَود عَيْناً، وأنه ليس له أن يعفو إلى الدِّيَة إلا برضى الجانى، فإن عدل إلى الدية ولم يرض الجانى، فقَودُه بحاله، وهذا مذهبُ مالك في الرواية الأُخرى وأبى حنيفة ‏.‏

والقولُ الثالث‏:‏ أن موجِبَه القَودُ عَيْناً مع التخيير بينه وبين الدِّيَة، وإن لم يرض الجانى، فإذا عفا عن القِصاص إلى الدِّيَة، فرضىَ الجانى، فلا إشكالَ، وإن لم يرض، فله العودُ إلى القِصاص عَيْناً، فإن عفا عن القَود مطلقاً، فإن قلنا‏:‏ الواجبُ أحدُ الشيئين، فله الديَة، وإن قلنا‏:‏ الواجبُ القِصاص عَيْناً، سقط حقُّه منها ‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقولون فيما لو مات القاتل‏؟‏

قلنا‏:‏ في ذلك قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ تسقطُ الدِّيَة، وهو مذهبُ أبى حنيفة، لأن الواجبَ عندهم القِصاصُ عَيْناً، وقد زال محلُّ استيفائه بفعل الله تعالى، فأشبه ما لو مات العبدُ الجانى، فإن أرشَ الجناية لا ينتقِلُ إلى ذِمَّة السيدِ، وهذا بخلاف تلف الرهن وموت الضامن، حيثُ لا يسقُطُ الحقُّ لثبوته في ذِمة الراهن والمضمونِ عنه، فلم يسقط بتلف الوثيقة ‏.‏

وقال الشافعى وأحمد‏:‏ تتعينُ الدِّيَةُ في تِرْكته، لأنه تعذَّر استيفاءُ القِصاصِ من غير إسقاط، فوجب الدِّيَةُ لئلا يذهبُ الورثة من الدم والدِّيَة مجاناً، فإن قيل‏:‏ فما تقولون لو اختار القِصَاص، ثم اختار بعده العفو إلى الدِّيَة، هل له ذلك‏؟‏

قلنا‏:‏ هذا فيه وجهان، أحدهما‏:‏ أنَّ له ذلك، لأن القِصاص أعلى، فكان له الانتقالُ إلى الأدنى، والثانى‏:‏ ليس له ذلك، لأنه لما اختار القِصاص، فقد أسقط الدِّيَة باختياره له، فليس له أن يعودَ إليها بعد إسقاطها ‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف تجمعون بين هذا الحديث، وبينَ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ قَتَلَ عَمْدَاً، فَهُوَ قَوَدٌ‏)‏‏؟‏ ‏.‏

قيل‏:‏ لا تعارُضَ بينهما بوجه، فإن هذا يدل على وجوب القَوْد بقتل العمد، وقوله‏:‏ ‏(‏فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ‏)‏ يدل على تخييره بين استيفاء هذا الواجب له وبين أخذ بدله، وهو الدِّيَةُ، فأىُّ تعارض‏؟‏، وهذا الحديثُ نظيرُ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ‏}‏، وهذا لا ينفى تخيير المستحق له بين ما كُتِبَ له، وبين بدله ‏.‏‏.‏ والله أعلم ‏.‏

فصل‏:‏ في إباحة قطع الإذْخِرَ من الحرم

وقوله صلى الله عليه وسلم في الخطبة‏:‏ ‏(‏إلاَّالإذْخِرَ‏)‏، بعد قولِ العباس له‏:‏ إلا الإذْخِرَ، يدل على مسألتين‏:‏

إحداهما‏:‏ إباحة قطع الإذَخِرَ‏.‏

والثانية‏:‏ أنه لا يُشترط في الاستثناء أن ينويَه من أول الكلام، ولا قبل فراغه، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لو كان ناوياً لاستثناء الإذْخِر من أول كلامه، أو قبلَ تمامه، لم يتوقف استثناؤه له على سؤال العباس له ذلك، وإعلامه أنهم لا بدَّ لهم منه لِقَيْنِهِمْ وبيوتهم، ونظير هذا استثناؤه صلى الله عليه وسلم لِسهيل ابن بيضاء من أسارى بدر بعد أن ذكَّرهُ به ابنُ مسعود، فقال‏:‏ ‏(‏لا يَنْفَلِتَنَّ أحَدٌ مِنْهُم إلا بِفِدَاء أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ‏)‏ فقال ابنُ مسعود‏:‏ إلا سهيلَ ابْنَ بيضاء، فإنى سمعتُه يذكر الإسلام، فقال‏:‏ ‏(‏إلاَّ سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاء‏)‏ ومن المعلوم أنه لم يكن قد نوى الاستثناء في الصورتين من أول كلامه‏.‏

ونظيره أيضاً قولُ المَلَك لِسليمان لما قال‏:‏‏(‏لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امرأَةٍ غُلاماً يُقَاتِلُ في سبيلِ اللهِ‏)‏، فقال له المَلَكُ‏:‏ قُلْ‏:‏ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَلَمْ يَقُلْ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ قَالَ‏:‏إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، لَقَاتَلُوا في سبيل الله أَجمَعُون‏)‏،وفى لفظ‏:‏ ‏(‏لَكَانَ دَرَكاً لِحَاجَتِهِ‏)‏ فأخبر أن هذا الاستثناء لو وقع منه في هذه الحالة لنفعه، ومَن يشترط النية يقول‏:‏ لا ينفعُه‏.‏

ونظيرُ هذا قولُه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏واللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً، واللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً‏)‏ ثلاثاً، ثم سكت، ثم قال‏:‏‏(‏إنْ شَاءَ اللهُ‏)‏، فهذا استثناء بعد سكوت، وهو يتضمن إنشاء الاستثناء بعد الفراغ من الكلام والسكوت عليه، وقد نص أحمد على جوازه، وهو الصوابُ بلا ريب، والمصيرُ إلى موجب هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة أولى‏.‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

فصل‏:‏ في كتابة العلم والحديث في عهده صلى الله عليه وسلم

وفى القصة‏:‏ أن رجلاً مِن الصحابة يقال له‏:‏ أبو شاه، قام، فقال‏:‏ اكتُبوا لى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اكْتُبُوا لأبى شَاه‏)‏، يُريدُ خطبته، ففيه دليل على كتابة العلم، ونسخ النهى عن كِتابة الحديث، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مَنْ كَتَبَ عَنِّى شَيْئاً غَيْرَ القُرْآنِ، فَلْيَمْحُهُ‏)‏ وهذا كان في أول الإسلام خشية أن يختلِط الوحىُ الذي يُتلَى بالوحى الذي لا يُتلَى، ثم أذِن في الكتابة لحديثه‏.‏

وصح عن عبد الله بن عَمْرو أنه كان يكتُب حديثه، وكان مما كتبه صحيفة تُسمَّى الصادقة، وهى التي رواها حفيده عَمْرو بن شعيب، عن أبيه عنه، وهى من أصح الأحاديث، وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها في درجة أيوب عن نافع عن ابن عمر، والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها‏.‏

فصل‏:‏ في كراهة الصلاة في المكان الذي فيه صور

وفى القصة‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل البيت، وصلَّى فيه، ولم يدخله حتى مُحيت الصورُ منه، ففيه دليل على كراهة الصلاة في المكان المصوّرِ، وهذا أحقُّ بالكراهة من الصلاة في الحمَّام، لأن كراهة الصلاة في الحمَّام، إما لكونه مَظِنَّة النجاسة، وإما لكونه بيتَ الشيطان، وهو الصحيح، وأما محلُّ الصور، فَمَظِنَّةُ الشِّرْكِ، وغالِبُ شرك الأُمم كان من جهة الصور والقبور ‏.‏

فصل‏:‏ في جواز لِبْس السواد أحياناً

وفى القصة‏:‏ أنه دخل مكة، وعليه عمامة سوداء، ففيه دليل على جواز لِبْس السواد أحياناً، ومِنْ ثَمَّ جعل خلفاء بنى العباس لِبْس السواد شعاراً لهم، ولِولاتهم، وقضاتهم، وخطبائهم، والنبى صلى الله عليه وسلم لم يلبسه لباساً راتباً، ولا كان شعارَه في الأعياد، والجُمَع، والمجامع العظام البتة، وإنما اتفق له لبسُ العمامة السوداء يومَ الفتح دون سائر الصحابة، ولم يكن سائِرُ لباسه يومئذ السواد، بل كان لواؤه أبيض ‏.‏

فصل‏:‏ في أن تحريم مُتعة النساء كان عام الفتح

ومما وقع في هذه الغزوة، إباحةُ مُتعة النساء، ثم حرَّمها قبلَ خروجه مِن مكة،واخْتُلِفَ في الوقت الذي حُرِّمت فيه المُتعة، على أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يوم خَيْبَر، وهذا قولُ طائفة من العلماء‏.‏منهم‏:‏ الشافعى، وغيره‏.‏

والثانى‏:‏ أنه عامَ فتح مكة، وهذا قولُ ابنِ عيينة، وطائفة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه عام حُنَيْن، وهذا في الحقيقة هو القولُ الثانى، لاتصال غزاة حُنَيْن بالفتح‏.‏

والرابع‏:‏ أنه عامَ حَجَّةِ الوداع، وهو وهم من بعض الرواة، سافر فيه وهمُه من فتح مكة إلى حَجَّةِ الوداع، كما سافر وهم معاوية من عُمْرةِ الجِعرانة إلى حَجَّةِ الوداع حيث قال‏:‏ قصرتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة في حَجَّته، وقد تقدَّم في الحَج، وسفرُ الوهم مِن زمان إلى زمان، ومِن مكان إلى مكان، ومِن واقعة إلى واقعة، كثيراً ما يعرض للحُفَّاظ فمَن دونهم‏.‏

والصحيح‏:‏أنَّ المُتعةإنماحُرِّمت عام الفتح، لأنه قد ثبت في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ أنهم استمتعوا عامَ الفتح مع النبى صلى الله عليه وسلم بإذنه، ولو كان التحريمُ زمنَ خَيْبَر، لزم النسخُ مرتين، وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة، ولا يقعُ مثلُه فيها، وأيضاً‏:‏ فإن خَيْبَر لم يكن فيها مسلمات، وإنما كُنَّ يهوديات، وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد، إنما أُبِحْنَ بعد ذلك في سورة المائدة بقوله‏:‏ ‏{‏اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌ لَهُمْوَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏، وهذا متصل بقوله‏:‏ ‏{‏اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{‏اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، وهذا كان في آخِر الأمر بعد حجة الوداع، أو فيها، فلم تكن إباحةُ نساء أهل الكتاب ثابتة زمنَ خَيْبَر، ولا كان للمسلمين رغبةٌ في الاستمتاع بنساء عدوهم قبل الفتح، وبعد الفتح استُرِقَّ مَن استُرِقَّ منهن، وصِرْنَ إماءً للمسلمين‏.‏ فإن قيل‏:‏ فما تصنعون بما ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث على بن أبى طالب‏:‏ ‏(‏أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مُتعة النساء يوم خَيْبَر، وعن أكْلِ لُحُوم الحُمُر الإنسية‏)‏ وهذا صحيح صريح‏؟‏

قيل‏:‏ هذا الحديثُ قد صحَّت روايتُه بلفظين‏:‏ هذا أحدُهما‏.‏ والثانى‏:‏ الاقتصار على نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن نِكاح المُتعة، وعن لُحوم الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر، هذه رواية ابن عُيينة عن الزهرى، قال قاسم بن أصبغ‏:‏ قال سفيان ابن عيينة‏:‏ يعنى أنه نهى عن لحوم الحُمُر الأهلية زمنَ خَيْبَر، لا عن نكاح المُتعة،ذكره أبو عمر،وفى ‏(‏التمهيد‏)‏‏:‏ ثم قال‏:‏ على هذا أكثرُ الناس انتهى، فتوهم بعضُ الرواة أن يومَ خَيْبَر ظرفٌ لتحريمهن، فرواه‏:‏ حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم المُتعة زمن خَيْبَر، والحُمُرَ الأهلية، واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث، فقال‏:‏ حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم المُتعة زمَن خَيْبَر، فجاء بالغلط البيِّن‏.‏

فإن قيل‏:‏ فأى فائدة في الجمع بين التحريمين، إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد، وأين المُتعةُ مِن تحريم الحُمُرِ‏؟‏ قيل‏:‏ هذا الحديثُ رواه على بن أبى طالب رضى الله عنه محتجاً به على ابن عمه عبد الله بن عباس في المسألتين، فإنه كان يُبيح المُتعة ولحوم الحُمُر، فناظره على بن أبى طالب في المسألتين، وروى له التحريمين، وقيَّد تحريمَ الحُمُر بزمن خَيْبَر، وأطلق تحريمَ المُتعة وقال‏:‏ إنك امرؤ تائه، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّم المُتعة، وحرَّم لحوم الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر، كما قاله سفيانُ بنُ عُيينة، وعليه أكثرُ الناس، فروى الأمرين محتجاً عليه بهما، لا مقيِّداً لهما بيوم خَيْبَر‏.‏‏.‏ والله الموفق‏.‏ولكن ههنا نظر آخر، وهو أنه‏:‏ هَلْ حرَّمها تحريمَ الفواحش التي لا تُباح بحال، أو حرَّمها عند الاستغناء عنها، وأباحها للمضطر‏؟‏ هذا هو الذي نظر فيه ابنُ عباس وقال‏:‏ أنا أبحتُها للمضطر كالميتة والدم، فلما توسَّعَ فيها مَنْ توسَّع، ولم يقف عند الضرورة، أمسك ابنُ عباس عن الإفتاء بحلِّها، ورجع عنه، وقد كان ابنُ مسعود يرى إباحتها ويقرأ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏، ففى

‏(‏الصحيحين‏)‏ عنه قال‏:‏ كنَّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نِساء، فقلنا‏:‏ ألا نختصِى‏؟‏ فنهانا، ثم رخَّص لنا أن ننكح المرأة بالثوبِ إلى أجل، ثم قرأ عبد الله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَاأَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواإنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏

وقراءة عبد الله هذه الآية عقيب هذا الحديث يحتمل أمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ الردُّ على مَن يُحرِّمها، وأنها لو لم تكن مِن الطيبات لما أباحها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثانى‏:‏ أن يكون أراد آخِرَ هذه الآية، وهو الرد على مَن أباحها مطلقاً، وأنه معتد، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إنما رخَّص فيها للضرورة، وعند الحاجة في الغزو، وعند عدم النساء، وشدة الحاجة إلى المرأة‏.‏ فمَن رخَّص فيها في الحَضَر مع كثرة النساء، وإمكان النكاح المعتاد، فقد اعتدى، والله لا يُحب المعتدين‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف تصنعون بما روى مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ من حديث جابر، وسلمة بن الأكوع، قالا‏:‏ خرج علينا منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذِن لكم أن تستمتعوا، يعنى‏:‏ مُتعة النساء‏.‏

قيل‏:‏ هذا كان زمنَ الفتح قبل التحريم، ثم حرَّمها بعد ذلك بدليلِ ما رواه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏، عن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ رخَّص لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عامَ أوطاسٍ في المُتعة ثلاثاً، ثم نهى عنها‏.‏ وعام أوطاس‏:‏ هو عام الفتح، لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تصنعون بما رواه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏، عن جابر بن عبد الله، قال‏:‏ كنا نستمتع بالقَبْضَةِ مِن التمر والدقيق الأيامَ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر حتى نهى عنها عُمَرُ في شأن عَمْرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنه قال‏:‏ مُتعتانِ كانتا على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أنهى عنهما‏:‏ مُتعةُ النساءِ ومُتعةُ الحجِّ‏.‏

قيل‏:‏ الناس في هذا طائفتان‏:‏ طائفة تقول‏:‏ إن عُمَر هو الذي حرَّمها ونهى عنها، وقد أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باتباع ما سَـنَّه الخلفاء الراشدون، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سَبْرَة بن معبد في تحريم المُتعة عامَ الفتح، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سَبْرَة، عن أبيه، عن جده، وقد تكلم فيه ابنُ معين، ولم ير البخارىُّ إخراجَ حديثه في ‏(‏صحيحه‏)‏ مع شدة الحاجة إليه، وكونه أصلاً من أُصول الإسلام، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به، قالوا‏:‏ ولو صح حديثُ سبرة، لم يخفَ على ابن مسعود حتى يروى أنهم فعلوها، ويحتجّ بالآية، وأيضاً ولو صح لم يقل عُمَر‏:‏ إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنها، وأُعاقب عليها، بل كان يقول‏:‏ إنه صلى الله عليه وسلم حرَّمها ونهى عنها‏.‏ قالوا‏:‏ ولو صح لم تُفعل على عهد الصِّدِّيق وهو عهدُ خلافة النبوة حقاً

والطائفة الثانية‏:‏ رأت صحةَ حديثِ سَبْرَة، ولو لم يصح، فقد صحَّ حديثُ على رضى الله عنه‏:‏ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حرَّم مُتعة النساء، فوجب حملُ حديث جابر على أن الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريمُ، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمنُ عُمَررضىالله عنه، فلما وقع فيها النزاعُ، ظهر تحريمُها واشتهر، وبهذا تأتَلِفُ الأحاديثُ الواردة فيها‏.‏‏.‏ وبالله التوفيق

فصل‏:‏ في جواز إجارة المرأة وأمانها للرجل والرجلين

وفى قصة الفتح من الفقه‏:‏ جوازُ إجارة المرأةِ وأمانِها للرجل والرجلين،كما أجاز النبىُّ صلى الله عليه وسلم أمانَ أُمِّ هانىء لِحموَيْها‏.‏

وفيها من الفقه جوازُ قتل المرتد الذي تغلَّظت رِدَّتُه من غير استتابة، فإن عبد الله بن سعد بن أبى سرح كان قد أسلم وهاجر، وكان يكتُب الوحىَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتدَّ، ولحق بمكة، فلما كان يومُ الفتح، أتى به عثمانُ ابن عفان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فأمسك عنه طويلاً، ثم بايعه، وقال‏:‏ ‏(‏إنما أمسكتُ عنه ليقوم إليه بعضُكُم فيضربَ عنقه‏)‏، فقال له رجل‏:‏ هلاَّ أومأتَ إلىَّ يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏مَا يَنْبَغِى لِنَبىٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُن‏)‏، فهذا كان قد تغلَّظ كفرُه برِدَّته بعد إيمانه، وهجرته، وكتابةِ الوحى، ثم ارتدَّ ولَحِقَ بالمشركين يطعن على الإسلام ويعيبُه، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُريدُ قتله، فلما جاء به عثمانُ بنُ عفان وكان أخاه مِن الرضاعة، لم يأمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم بقتله حياءً مِن عثمان، ولم يُبايعه ليقوم إليه بعضُ أصحابه فيقتله، فهابُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُقْدِمُوا على قتله بغير إذنه، واستحيى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من عثمان، وساعدَ القدرُ السَّابقُ لما يريد الله سبحانه بعبد الله مما ظهر منه بعد ذلك من الفتوح، فبايعه، وكان ممن استثنى الله بقوله‏:‏ ‏{‏كَيْفَ يَهْدِى اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أنَّ الرَّسُولَ حَقٌ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكََ وَأَصْلَحُواْ فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 86-89‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏مَا يَنْبَغِى لِنَبىٍّ أَن تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ‏)‏، أى‏:‏ أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم لا يُخالِفُ ظاهِرُه باطِنَه، ولا سِرُّه علانِيتَه، وإذا نفذ حكمُ اللهِ وأمرُه، لم يُومِ به، بل صرَّحَ به، وأَعلَنه، وأظهره‏.‏

فصل‏:‏ في غزوة حُنَيْن وتُسمى غزوة أوطاس

وهما موضعان بينَ مكة والطائف، فسُمِّيت الغزوةُ باسم مكانها، وتُسمى غزوةَ هَوازن، لأنهم الذين أَتَوْا لِقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما سمعت هَوازِنُ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فتح اللهُ عليه مِن مكة، جمعها مالكُ بنُ عوف النَّصْرى، واجتمع إليه مع هَوازِن ثقيفٌ كُلُّها، واجتمعت إليه مُضَرُ وجُشَمُ كُلُّها، وسعدُ بن بكر، وناسٌ من بنى هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قَيْس عَيلان إلا هؤلاء، ولم يحضُرْهَا مِن هَوازِن‏:‏ كعبٌ، ولا كِلاب، وفى جشم‏:‏ دريدُ بنُ الصِّمة، شيخ كبير ليس فيه إلا رأيُهُ ومعرفتُه بالحرب، وكان شجاعاً مجرَّباً، وفى ثقيف سيِّدَانِ لهم، وفى الأحلاف‏:‏ قاربُ بن الأسود، وفى بنى مالك‏:‏ سُبيع بن الحارث وأخوه أحمر ابن الحارث، وجِماعُ أمر الناس إلى مالك بن عوف النَّصْرى، فلما أجمع السيرَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ساق مع الناس أموالَهم ونساءَهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس، اجتمع إليه الناسُ وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمة، فلما نزل قال‏:‏ بأى واد أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ بأوطاس ‏.‏ قال‏:‏ نِعْمَ مَجَالُ الخيل، لا حَزْنٌ ضِرْس، ولا سَهْلٌ دَهْسٌ، مالى أسمع رُغاء البعير، ونُهاق الحمير، وبُكاء الصبى، ويُعار الشاء‏؟‏ قالوا‏:‏ ساق مالِكُ بن عوفٍ مع الناسِ نِساءَهُم وأموالَهم وأبناءهم ‏.‏ قال‏:‏ أَيْنَ مالك‏؟‏ قيل‏:‏ هذا مالك، ودُعى له ‏.‏ قال‏:‏ يا مالك ؛ إنك قد أصبحتَ رئيسَ قومك، وإن هذا يومٌ كائن له ما بعده من الأيام، مالى أسمع رُغاء البعير، ونُهاق الحمير، وبُكاء الصغير، ويُعار الشاء‏؟‏، قال‏:‏ سقتُ مع الناس أبناءهم، ونساءَهم، وأموالَهم ‏.‏ قال‏:‏ ولِمَ‏؟‏ قال‏:‏ أردتُ أن أجعل خلفَ كُلِّ رجل أهلَه وماله ليقاتل عنهم ‏.‏ فقال‏:‏ راعى ضأنٍ واللهِ، وهل يردُّ المنهزمَ شىء، إنها إن كانت لك لم ينفعْك إلا رجلٌ بسيفه ورمحه، وإن كانت عليكَ، فُضِحْتَ في أهلك ومالك، ثم قال‏:‏ ما فعلت كعبٌ وكِلاب‏؟‏ قالوا‏:‏ لم يشهدْها أحدٌ منهم ‏.‏ قال‏:‏ غاب الحَدُّ والجِدُّ، لو كان يوم علاءٍ ورِفعة، لم تَغِبْ عنه كعبٌ ولا كِلاب، ولوَدِدْت أنكم فعلتم ما فعلت كعبٌ وكلاب، فمَن شهدها منكم‏؟‏ قالوا‏:‏ عَمْرو بن عامر، وعَوْف بن عامر، قال‏:‏ ذَانِكَ الجَذَعَانِ من عامر، لا ينفعان ولا يضران ‏.‏ يا مالك ؛ إنك لم تصنع بتقديم البَيْضةِ بَيْضةِ هَوازِن إلى نحورِ الخيل شيئاً، ارفعهم إلى مُتمنَّع بلادهم وعُليا قومهم، ثم الق الصُّباة على متون الخيل، فإن كانت لك، لحقَ بك مَنْ وراءَك، وإن كانت عليك، ألْفاك ذلك، وقد أحرزتَ أهلك ومالك ‏.‏ قال‏:‏ واللهِ لا أفعلُ، إنك قد كَبِرْتَ وَكَبِرَ عَقلُكَ، واللهِ لتُطِيعُنَّنى يا معشَرَ هَوازِن، أو لأتَّكئِنَّ على هذا السيف حتى يخرُجَ مِن ظهرى، وكره أن يكون لِدُريد فيها ذِكر ورأى، فقالوا‏:‏ أطعناك، فقال دُريد‏:‏ هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنى ‏.‏

* يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَـــــذَعْ *

* أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَـــــعْ *

* أقُــودُ وَطْفَاءَ الزَّمَـــعْ *

* كَأَنَّهَا شَاةٌ صَــــــدَعْ *

ثم قال مالك للناس‏:‏ إذا رأيتمُوهم فاكسروا جُفون سيوفكم، ثم شُدُّوا شدةَ رجل واحد ‏.‏‏.‏ وبعث عيوناً مِن رجاله، فأَتَوْه وقد تفرَّقت أوصالُهم، قال‏:‏ ويلكم ما شأنكم‏؟‏ قالوا‏:‏ رأينا رِجالاً بيضاً على خيل بُلقٍ، واللهِ ما تماسكنا أن أصابَنَا ما ترى، فواللهِ ما ردَّه ذلك عن وجهه أن مَضَى على ما يُريدُ ‏.‏

ولما سمع بهم نبىُّ الله صلى الله عليه وسلم، بعث إليهم عبد الله بن أبى حَدْرَدٍ الأسلمى، وأمره أن يدخُل في الناس، فيُقيم فيهم حتى يعلَم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبى حدرد، فدخل فيهم حتى سمِعَ وعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسَمِعَ مِن مالك وأمر هوازن ما هُم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر

فلما أجمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هَوازِن، ذُكِرَ له أن عند صفوان بنِ أُمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل إليه، وهو يومئذ مشرك، فقال‏:‏ يا أبا أُمية ؛ أعِرْنا سِلاحك هذا نلقى فيه عدونا غداً، فقال صفوان‏:‏ أغصباً يا محمد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إلَيْكَ‏)‏، فقال‏:‏ ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة دِرع بما يكفيها مِن السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يكفيَهم حملها، ففعل ‏.‏

ثم خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معه ألفانِ مِن أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، ففتح الله بهم مكة، وكانوا اثنى عشر ألفاً، واستعمل عتَّابَ بن أسيد على مكة أميراً، ثم مضى يُريد لقاء هوازن‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن ابن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله، قال‏:‏ لما اسـتقبلنا وادى حُنَيْن، انحدرنا في وادٍ من أودية تِهامة أجوفَ حَطُوط، إنما ننحـدر فيه انحداراً‏.‏ قال‏:‏ وفى عَماية الصبح، وكان القومُ قد سبقونا إلى الوادى، فكَمَنُوا لنا في شِعابه وأحْنائه ومضايقه، قد أجمعوا، وتهيؤوا، وأعدوا فواللهِ ما راعنا ونحن منحطُّون إلا الكتائبُ، قد شدُّوا علينا شَدَّةَ رجل واحد، وانشمر الناسُ راجعين لا يَلْوِى أحدٌ منهم على أحد،وانحازرسولُ الله صلىالله عليه وسلم ذاتَ اليمين، ثم قال‏:‏ ‏(‏إلى أيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ‏؟‏ هَلُمَّ إلىَّ، أنا رَسُولُ الله، أنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله‏)‏، وبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ من المهاجرين والأنصارِ وأهلِ بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين‏:‏ أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته‏:‏ على والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه، والفَضل بن العباس، وربيعةُ بن الحارث، وأُسامةُ بن زيد، وأيمن ابن أُم أيمن، وقُتِلَ يومئذ‏.‏ قال‏:‏ ورجل من هَوازِن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رُمح طويل أمامَ هَوازِن، وهَوازِنُ خلفه، إذا أدرك، طعن برمحه، وإذا فاته الناسُ، رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه، فبينا هو كذلك إذ أهوى عليه على بن أبى طالب، ورجـل من الأنصار يُريدانه، قال‏:‏ فأتى على منْ خَلْفِهِ، فضرب عرقوبى الجـمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصارىُّ على الرجل، فضربه ضربةً أطن قدَمه بنصف ساقه، فانجعفَ عن رحله، قال‏:‏ فاجتلد الناسُ، قال‏:‏ فواللهِ ما رجعت راجعةُ الناس مِن هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما انهزم المسلمون، ورأى مَن كان مَع رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن جُفاة أهل مكة الهزيمة، تكلَّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضِّغنِ، فقال أبو سفيان بن حرب‏:‏ لا تنتهى هزيمتهُم دونَ البحر، وإن الأزلامَ لمعه في كِنانته، وصرخ جَبَلَة بن الحنبل وقال ابن هشام‏:‏ صوابه كَلَدَة ‏:‏ ألا بطل السِّحْرُ اليوم، فقال له صفوانُ أخوه لأُمه وكان بعدُ مشركاً‏:‏ اسكت فضَّ اللهُ فاك، فواللهِ لأن يَرُبَّنى رَجُلٌ مِن قريش، أحـبُّ إلىَّ من أن يربَّنى رجلٌ مِن هَوازِن‏.‏

وذكر ابنُ سعد عن شيبة بن عُثمان الحَجَبى، قال‏:‏ لما كان عامُ الفتح، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عَنوة، قلت‏:‏ أسيرُ مع قريش إلى هَوازِن بحُنَيْن، فعسى إن اختلطوا أن أُصيب مِن محمد غِرَّة، فأثارَ منه، فأكون أنا الذي قمتُ بثأر قريش كُلِّها، وأقولُ‏:‏ لو لم يبقَ مِن العرب والعجم أحد إلا اتبع محمداً، ما تبعتُه أبداً، وكنت مُرْصداً لما خرجتُ له لا يزدادُ الأمر في نفسى إلا قوةً، فلما اختلط الناسُ، اقتحم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته، فأصلتَ السيف، فدنوتُ أريدُ ما أريدُ منه، ورفعتُ سيفى حتى كِدتُ أشعره إياه، فرُفِعَ لى شُواظٌ مِن نار كالبرق كاد يمحشُنى، فوضعتُ يدى على بصرى خوفاً عليه، فالتفتَ إلىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادانى‏:‏ ‏(‏يَا شَيْبُ؛ ادْنُ مِنِّى‏)‏ فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَمَسَحَ صَدْرِى، ثم قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانَ‏)‏ قال‏:‏ فواللهِ لهو كان ساعتَئِذٍ أحبَّ إلىَّ مِنْ سمعى، وبصرى، ونفسى، وأذهبَ اللهُ ما كان في نفسى، ثم قال‏:‏ ‏(‏ادْنُ فقاتِلْ‏)‏، فتقدمتُ أمامَه أضـربُ بسيفى، الله يعلمُ أنى أحب أن أقيَه بنفسى كُلَّ شئ، ولو لقيتُ تلك الساعة أبى لو كان حياً لأوقعتُ به السيف، فجعلتُ ألزمُه فيمن لزمه حتى تراجعَ المسـلمون، فكرُّوا كَرَّةَ رجل واحد، وقُرِّبَتْ بغلةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فاستوى عليها، وخرج في أثرهم حتى تفرَّقوا في كُلِّ وجه، ورجع إلى معسكره، فدخـل خِباءه، فدخلتُ عليه، ما دخل عليه أحدٌ غيرى حباً لرؤية وجهه، وسروراً به، فقال‏:‏ ‏(‏يا شَيْبُ؛ الذي أرادَ اللهُ بكَ خَيْرٌ ممَّا أرَدْتَ لِنَفْسِك‏)‏، ثم حدَّثنى بكلِّ ما أضمرتُ في نفسى ما لم أكن أذكره لأحد قط، قال‏:‏ فقلتُ‏:‏ فإنى أشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأنكَ رسولُ الله، ثم قلت‏:‏ استغفر لى‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏غَفَرَ اللهُ لَكَ‏)‏‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدَّثنى الزُّهْرى، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس ابن عبد المطلب، قال‏:‏ إنى لمعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم آخذٌ بِحَكَمَةِ بغلته البيضاء، قد شَجَرْتُها بها، وكنت امرءاً جسيماً شديدَ الصوت، قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى ما رأى من الناس‏:‏ ‏(‏إلى أيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فلم أر الناس يَلْوُون على شىء، فقال‏:‏ ‏(‏يا عَبَّاسُ اصْرَخْ‏:‏ يا مَعْشَر الأنْصَارِ، يَامَعْشَرَ أَصْحَاب السَّمُرَةِ‏)‏، فأجابوا‏:‏ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ‏.‏قال‏:‏ فيذهبُ الرجلُ ليثنى بعيرَه، فلا يقدِرُ على ذلك، فيأخذ دِرعه فيقذفها في عُنُقه، ويأخذ سيفَه وقوسه وتُرسَه، ويقتحِمُ عن بعيره، ويُخلى سبيلَه، ويؤم الصوت حتى ينتهىَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة، استقبلُوا النَّاس، فاقتتلُوا فكانت الدعوة أوَّلَ ماكــانت‏:‏ يا للأنصـار، ثم خلصت آخراً‏:‏ يا للخزرج، وكانوا صُبُرَاً عند الحرب، فأشرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه، فنظر إلى مُجْتَلَدِ القوم، وهم يَجْتَلِدُونَ، فقال‏:‏ ‏(‏الآنَ حَمِىَ الوَطيسُ‏)‏ وزَاد غيره‏:‏

أنَا النَّبِىُّ لاَ كَذِبْ ** أنا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ ثم أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَصيَاتٍ،فرمى بها في وجوه الكُفَّارِ،ثم قال‏:‏‏(‏انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ‏)‏، فما هو إلا أن رماهم، فما زِلْتُ أرى حَدَّهُم كليلاً، وأمرَهم مُدْبِرَاً‏.‏

وفى لفظ له‏:‏ إنه نزل عن البغلة، ثم قبضَ قبضة مِن تُراب الأرض، ثم استقبل بها وجوهَهم، وقال‏:‏ ‏(‏شَاهَتِ الوُجُوهُ‏)‏، فما خلق اللهُ منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولَّوا مدبرين‏.‏

وذكر ابن إسحاق عن جُبير بن مطعم، قال‏:‏ لقد رأيت قبل هزيمةِ القوم، والناس يقتتلون يومَ حُنَيْنٍ مثلَ البَجادِ الأسود، أقبل مِن السماء حتى سقط بيننا وبينَ القوم، فنظرتُ فإذا نمل أسودُ مبثوث قد ملأ الوادى، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فلم أشك أنها الملائكة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما انهزم المشركون، أتوا الطائف، ومعهم مالكُ بن عَوْف، وعسكر بعضُهم بأوطاس، وتوجَّه بعضُهم نحو نخلةَ، وبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في آثار مَن توجَّه قِبل أوطاس أبا عامر الأشعرىَّ، فأدرك مِن الناس بعضَ مَن انهزم، فناوشُوه القِتَال، فرُمِى بسهم فقُتِل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعرى، وهو ابن أخيه، فقاتلهم، ففتح الله عليه، فهزمهم اللهُ، وقتل قاتل أبى عامر، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اغْفِرْ لعُبَيْدٍ أبى عَامِرٍ وَأَهْلهِ، واجْعَلْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ‏)‏ واستغفر لأبى موسى‏.‏

ومضى مالكُ بن عوف حتى تحصَّن بحصن ثقيف، وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالسَّبْى والغنائمِ أن تُجْمَعَ فَجُمِعَ ذلكَ كُلُّهُ، ووجَّهوه إلى الجِعْرَانَةِ، وكان السَّبىُ ستةَ آلاف رأس، والإبلُ أربعةً وعشرين ألفاً، والغنم أكثرَ من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أُوقية فضة، فاستأنى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدَموا عليه مسلمين بِضْعَ عشرة ليلة

ثم بدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلَّفةَ قلوبُهم أوَّلَ الناسِ، فأعطى أبا سفيان بنَ حرب أربعين أُوقية، ومائةً من الإبل، فقال‏:‏ ابنى يزيد‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أعْطُوهُ أرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَمِائةً مِنَ الإبل‏)‏، فقال‏:‏ ابنى معاوية‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أعْطُوهُ أرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَمِائَةً من الإبل‏)‏، وأعطى حكيم بن حِزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أُخرى فأعطاه، وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفى خمسين، وذكر أصحاب المائة وأصحاب الخمسين وأعطى العباسَ بن مرداس أربعين، فقال في ذلك شعراً، فكمَّل له المائة‏.‏

ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاءِ الغنائم والناس، ثم فضَّها على الناس، فكانت سهامُهم لكل رجل أربعاً من الإبل وأربعينَ شاة، فإن كان فارساً أخذ اثنى عشر بعيراً وعشرين ومائة شاة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبى سعيد الخدرى قال‏:‏ لما أعطى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى مِن تلك العطايا في قريش، وفى قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شىء، وَجَدَ هذا الحىُّ من الأنصار في أنفسهم، حتى كَثُرت فيهم القالةُ، حتى قال قائلُهم‏:‏ لقى واللهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومَه، فدخل عليه سعدُ بنُ عبادة، فقال‏:‏ يا رسول الله؛ إن هذا الحىَّ من الأنصار قد وَجَدوا عليك في أنفسهم لِما صنعتَ في هذا الفئ الذي أصبتَ، قسمتَ في قومك، وأعطيتَ عطايا عِظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحىِّ من الأنصار منها شىء‏.‏ قال‏:‏

‏(‏فأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ يا رسولَ الله؛ ما أنا إلا مِن قومِى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فاجْمَعْ لى قَومَكَ في هذِهِ الحَظِيرَةِ‏)‏ قال‏:‏ فجاء رجالٌ من المهاجرينَ، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردَّهم، فلما اجتمعوا، أتى سعدٌ، فقال‏:‏ قد اجتمع لك هذا الحىُّ من الأنصار، فأتاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَحَمِدَ الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال‏:‏ ‏(‏يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ؛ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنى عَنْكُم، وجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا في أَنْفُسِكُمْ، ألَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً فَهَداكُم اللهُ بى، وعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بى، وأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبكُم‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسولُه أمَنُّ وأفضلُ، ثم قال‏:‏ ‏(‏أَلاَ تُجيبُونى يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ بماذَا نجيبُك يا رسولَ الله، للهِ ولِرسُولِه المنُّ والفَضْلُ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أَمَا واللهِ لَوْ شِئْتُم، لَقُلْتُم، فَلَصَدَقْتُم ولَصُدِّقْتُمْ‏:‏ أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ، ومَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيداً فآوَيْنَاكَ، وعائِلاً فآسيناكَ، أَوجَدْتم علىَّ يَا مَعْشَرَ الأنْصارِ في أَنْفُسِكُم في لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قوماً لِيُسْلِمُوا، وَوكَلْتُكُم إلى إسْلامِكُم، ألا تَرْضَوْنَ يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاء والبَعير، وتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ الله إلى رحالِكم، فَوالَّذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَمَا تَنْقَلِبُون بِهِ خيرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، وَلَوْلا الهِجْرَةُ، لَكُنْتُ امْرُءاً مِن الأنْصارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً وَوَادياً، وسَلَكَت الأنصار شِعْباً وَوَادياً لَسَلكْتُ شِعْبَ الأنْصارِ وواديها، الأنصارُ شِعَارٌ، والنَّاسُ دِثارٌ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الأنْصار، وأبناءَ أبناءِ الأنْصار‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فبكى القومُ حتَّى أخضلُوا لِحاهم، وقالوا‏:‏ رَضينَا برسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَسْمَاً وحظاً، ثم انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتفرَّقوا‏.‏

وقدمت الشَّيماءُ بنت الحارث بن عبد العُزَّى أُختُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرّضاعة، فقالت‏:‏ يا رسول الله؛ إنى أختُك مِن الرضاعة، قال‏:‏ ‏(‏وما علامَةُ ذلك‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ عضَّةٌ عَضَضتنيها في ظهرى، وأنا متورِّكَتُكَ‏.‏ قال‏:‏ فعرف رسولُ صلى الله عليه وسلم العلامة‏.‏ فبسط لها ردائَهُ، وأجلسها عليه وخيَّرها، فقال‏:‏ ‏(‏إنْ أحْبَبْتِ الإقامَةَ فَعِنْدِى مُحَبَّبَةً مُكَرَّمَةً، وإنْ أحْبَبْتِ أنْ أُمَتِّعَكِ فَتَرْجِعى إلى قَوْمِكِ‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ بل تُمَتِّعنى وتردُّنى إلى قومى، ففعل، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غُلاما يقال له‏:‏ ‏(‏مكحول‏)‏ وجارية، فزوجت إحداهما من الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ فأسلمت، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية، ونعما، وشاءً، وسماها حذافة‏.‏ وقال‏:‏ والشيماء لقب‏.‏

فصل‏:‏ في قدوم وفد هَوازِن

وقدم وفد هَوازِنَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أربعةَ عشر رجلاً، ورأسُهم زُهَيرُ بن صُرَد، وفيهم أبو بُرقان عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة،

فسألوه أن يَمُُنَّ عليهم بالسَّبْى والأموال، فقال‏:‏ ‏(‏إنَّ مَعِى مَنْ تَرَوْنَ، وإنَّ أحَبَّ الحَدِيث إلىَّ أصْدَقُهُ، فَأَبْنَاؤُكُم ونِسَاؤُكُمْ أحَبُّ إلَيْكُم أمْ أمْوَالُكُمْ‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ ما كنا نعدِلُ بالأحساب شيئاً فقال‏:‏ ‏(‏إذا صَلَّيْتُ الغَدَاةَ فَقُومُوا فقولوا‏:‏ إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى المُؤمِنينَ، ونَسْتَشْفِعُ بِالمُؤمنين إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يَرُدُّوا عَلَيْنَا سَبْينَا‏)‏، فلما صلَّى الغداة، قاموا فقالُوا ذلِكَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمَّا مَا كَانَ لى ولبنى عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَهُوَ لَكُمْ، وَسَأَسْأَلُ لَكُمُ النَّاسَ‏)‏، فقال المهاجِرُونَ والأنصار‏:‏ ما كان لنا فهو لِرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الأقرعُ بنُ حابس‏:‏ أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عُيينة بن حِصن‏:‏ أما أنا وبنو فَزارة فلا، وقال العباسُ بنُ مرداس‏:‏ أما أنا وبنُو سليم فلا، فقالت بنو سليم‏:‏ ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباسُ بنُ مرداس‏:‏ وهَّنتمونى، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّ هؤلاء القَّوْمَ قَدْ جَاؤوا مُسْلِمِينَ، وقَدْ كُنْتُ اسْتَأنَيْتُ سَبْيَهُم، وقَد خَيَّرْتُهم، فَلَمْ يَعْدِلُوا بالأبناء والنِّساء شَيئاً، فمنْ كانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شئ، فَطَابَتْ نَفْسَهُ بأن يَرُدَّه، فسبيلُ ذلكَ، وَمَنْ أحَبَّ أنْ يَسْتَمْسِكَ بِحَقِّهِ، فليردَّ عليهِمْ، ولَهُ بِكُلِّ فَرِيضَةٍ ستُّ فرائضَ منْ أوَّلِ ما يفئ اللهُ علينا‏)‏، فقال الناسُ‏:‏ قد طيبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنَّا لا نعرِفُ مَنْ رَضِىَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَرْضَ، فارْجِعُوا حَتَّى يَرفَعَ إلينَا عرفاؤُكم أَمْرَكُم‏)‏، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم‏.‏

ولم يتخلف منهم أحد غير عُيينة بن حصن، فإنه أبى أن يرد عجوزاً صارت في يديه، ثم ردَّها بعد ذلك، وكسا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السَّبىَ قُبطية قُبطية‏.‏

فصل‏:‏ في الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنُّكت الحكمية

كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ قد وعد رسولَه، وهو صادقُ الوعد، أنه إذا فتح مكَّة، دخل النَّاسُ في دينه أفواجاً، ودانت له العربُ بأسرها، فلما تمَّ له الفتحُ المبين، اقتضت حِكمتُه تعالى أن أمسك قلوبَ هَوازِنَ ومَن تَبِعَهَا عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتألَّبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، لِيظهر أمرُ الله، وتمامُ إعزازه لرسوله، ونصره لدينه، ولِتكون غنائمُهم شكراناً لأهل الفتح، وليُظهرَ اللهُ سبحانه رسولَه وعِبادَه، وقهرَه لهذه الشَوْكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها، فلا يُقاومهم بعدُ أحدٌ من العرب، ولغير ذلك مِن الحكم الباهرة التي تلوحُ للمتأملين، وتبدو للمتوسمين

واقتضت حكمتُه سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارةَ الهزيمة والكسرة مع كثرة عَددهم، وعُددهم، وقوةِ شَوْكتهم لِيُطامِنَ رُؤوساً رُفِعت بالفتح، ولم تدخل بلدَه وحرمه كما دخله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واضعاً رأسه منحنياً على فرسه، حتى إنَّ ذقنه تكادُ تَمَسُّ سرجه تواضعاً لربه، وخضوعاً لعظمته، واستكانةً لعزَّته، أن أحلَّ له حَرَمهُ وبلده، ولم يَحِلَّ لأحد قبله ولا لأحد بعدَه، ولِيبين سُبحانه لمن قال‏:‏ ‏(‏لَنْ نُغْلَبَ اليَوْمَ عن قِلَّةٍ‏)‏ أن النصرَ إنما هو من عنده، وأنه مَن ينصرُه، فلا غالب له، ومَن يخذُله، فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولَّى نصر رسوله ودينه، لا كثرتُكم التي أعجبتكم، فإنها لم تُغن عنكم شيئاً، فوليتُم مُدبرين، فلما انكسرت قلوبُهم، أُرسلت إليها خِلَعُ الجبر مع بَرِيدِ النصر، فأنزل الله سكينتَه على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وقد اقتضت حكمتُه أن خِلَعَ النصر وجوائزَه إنما تفِيضُ على أهل الانكسار‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثينَ ونُمَكِّنَ لَهُمْ في الأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهَامَانَ وجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 6‏]‏

ومنها‏:‏ أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائمَ مكة، فلم يغنمُوا منها ذهباً، ولا فضةً، ولا متاعاً، ولا سبياً، ولا أرضاً كما روى أبو داود، عن وهب ابن منبِّه، قال‏:‏ سألتُ جابراً‏:‏ هَلْ غَنِمُوا يَوْمَ الفَتْح شَيْئاً‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ وكانوا قد فتحوها بإيجافِ الخيل والركاب، وهُم عشرةُ آلاف، وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيشُ مِن أسباب القوة، فحرَّك سبحانَه قلوبَ المشركين لغزوهم، وقذفَ في قلوبهم إخراجَ أموالهم، ونَعمهم، وشائهم، وسَبيهم معهم نُزُلاً، وضِيافةً، وكرامةً، لِحزبه وجنده، وتمَّمَ تقديرَه سبحانه بأن أطمعهم في الظفر، وألاح لهم مبادئ النصر، ليقضى اللهُ أمراً كان مفعولاً، فلما أنزل اللهُ نصرَهُ على رسوله وأوليائه، وبردت الغنائمُ لأهلها، وجرت فيها سهامُ الله ورسوله، قيل‏:‏ لا حاجةَ لنا في دمائكم، ولا في نسائكم وذراريكم، فأوحى اللهُ سبحانه إلى قلوبهم التوبةَ والإنابةَ، فجاؤوا مسلمين‏.‏ فقيل‏:‏ إن مِن شُكْرِ إسلامِكم وإتيانكم أن نَرُدَّ عَلَيْكُمْ نِسَاءَكُم وأَبْنَاءَكُم وَسَبْيَكُم، و‏{‏إن يَعْلَمِ اللهُ في قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 70‏]‏

ومنها‏:‏ أن الله سبحانه افتتح غزو العرب بغزوةِ بدر، وختم غزوهم بغزوة حُنَيْن، ولهذا يُقْرَنُ بين هاتين الغزاتين بالذكر، فيقال‏:‏ بدرٌ وحُنَيْن، وإن كان بينهما سبعُ سنين، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزاتين، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما، وبهاتين الغزاتين طُفِئَت جمرةُ العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فالأُولى‏:‏خوَّفتهم وكسرت مِن حَدِّهم، والثانية‏:‏ استفرغت قواهم، واستنفدت سهامَهم، وأذلَّت جمعهم حتى لم يجدوا بُداً من الدخول في دين الله‏.‏

ومنها‏:‏ أن الله سبحانه جَبَرَ بها أهلَ مكة، وفرَّحهم بما نالُوه من النصر والمغنم، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم، وإن كان عينَ جبرهم، وعرَّفهم تمامَ نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هَوازِن، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة، وإنما نُصِرُوا عليهم بالمسلمين، ولو أُفردوا عنهم، لأكلهم عدوُّهم‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك من الحكم التي لا يُحيط بها إلا الله تعالى‏.‏

فصل‏:‏ فيما ينبغى للإمام من بعث العيون

وفيها من الفقه‏:‏ أن الإمام ينبغى له أن يبعث العيونَ ومَنْ يدخلُ بين عدوه ليأتيه بخبرهم، وأن الإمام إذا سمع بقصد عدوِّه له، وفى جيشه قوة ومَنَعَة لا يقعُد ينتظرهم، بل يسيرُ إليهم، كما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى هَوازِن حتى لقيهم بحُنَيْن ‏.‏

ومنها‏:‏ أن الإمام له أن يستعيرَ سلاحَ المشركين وعُدَّتهم لِقتال عدوه، كما استعار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أدراع صفوان، وهو يومئذ مشركٌ ‏.‏

ومنها‏:‏ أن مِن تمام التوكل استعمالَ الأسبابِ التي نصبها الله لمسبباتها قدراَ وشرعاً، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكملُ الخلق توكُّلاً، وإنما كانوا يَلْقَوْنَ عدوَّهم، وهم متحصِّنُون بأنواع السِّلاح، ودخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكَّة، والبَيْضَةُ على رأسه، وقد أنزل الله عليه‏:‏ ‏{‏وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏

وكثير ممن لا تحقيق عنده، ولا رسوخ في العلم يستشكلُ هذا، ويتكايس في الجواب تارة بأن هذا فعله تعليماً للأُمة، وتارة بأن هذا كان قبلَ نزول الآية ‏.‏ ووقعت في مصر مسألة سأل عنها بعضُ الأمراء، وقد ذُكِرَ له حديثٌ ذكره أبو القاسم بن عساكر في ‏(‏تاريخه الكبير‏)‏ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان بعد أن أهدت له اليهوديةُ الشاةَ المسمومةَ لا يأكل طعاماً قُدِّمَ له حتى يأكل منه مَن قدَّمه ‏.‏

قالوا‏:‏ وفى هذا أُسوة للملوك في ذلك ‏.‏ فقال قائل‏:‏ كيف يُجمع بين هذا وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏‏؟‏ فإذا كانَ الله سبحانه قد ضمن له العِصْمةَ، فهو يعلم أنه لا سبيلَ لبَشَرٍ إليه ‏.‏

وأجاب بعضهُم بأن هذا يدل على ضعف الحديث، وبعضُهم بأن هذا كان قبلَ نزولِ الآية، فلما نزلت لم يكن لِيفعل ذلك بعدَها، ولو تأمل هؤلاء أن ضمان الله له العِصمة، لا يُنافى تعاطيه لأسبابها، لأغناهم عن هذا التكلُّف، فإن هذا الضمانَ له من ربه تبارك وتعالى لا يُناقِضُ احتراسَه مِن الناس، ولا يُنافيه، كما أن إخبارَ الله سبحانه له بأنه يُظهر دينَه على الدِّينِ كُلِّه، ويُعليه، لا يُناقض أمره بالقتال، وإعدادِ العُدَّة، والقوة، ورباط الخيل، والأخذ بالجد، والحذر، والاحتراس من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب، والتورية، فكان إذا أراد الغزوة، ورَّى بغيرها، وذلك لأن هذا إخبار من الله سبحانه عن عاقبة حاله ومآله بما يتعاطاه من الأسباب التي جـعلها الله مُفضية إلى ذلك، مقتضية له، وهو صلى الله عليه وسلم أعلمُ بربِّه، وأتبعُ لأمره من أن يعطِّل الأسبابَ التي جعلها الله له بحكمته موجبة لما وعده به من النصر والظفر، وإظهار دينه، وغلبته لعدوه، وهذا كما أنه سبحانه ضمن له حياتَه حتَّى يُبلِّغ رسالاتِه، ويُظهر دينه، وهو يتعاطى أسبابَ الحياة مِن المأكل والمشرب، والملبس والمسكن، وهذا موضِعٌ يغلَطُ فيه كثير مِن الناس، حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن ترك الدُّعاء، وزعم أنه لا فائدةَ فيه، لأن المسـؤول إن كان قد قُدِّر، ناله ولا بد، وإن لم يُقدَّر، لم ينله، فأى فائدة في الاشتغال بالدعاء‏؟‏ ثم تكايسَ في الجواب، بأن قال‏:‏ الدعاءُ عبادة، فيقال لهذا الغالِط‏:‏ بقى عليك قسم آخر وهو الحقُّ أنه قد قدَّر له مطلوبَه بسببٍ إن تعاطاه، حصل له المطلوبُ، وإن عطل السبب، فاته المطلوب، والدعاء من أعظم الأسباب في حصول المطلوب، وما مثل هذا الغالط إلا مثلُ مَن يقول‏:‏ إن كان الله قد قدَّر لى الشبع، فأنا أشبع، أكلتُ أو لم آكل، وإن لم يُقدِّر لى الشبع، لم أشبع أكلتُ أو لم آكل، فما فائدة الأكل‏؟‏ وأمثال هذه التُّرَّهات الباطلة المنافية لحكمة الله تعالى وشرعه ‏.‏‏.‏ وبالله التوفيق

فصل‏:‏ في حكم العارية هل هي مضمونة أم لا‏؟‏

وفيهـا‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم شرط لصـفوان في العارية الضمان، فقال‏:‏ ‏(‏بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ‏)‏ فهل هذا إخبار عن شرعه في العارية، ووصف لها بوصفٍ شرعه الله فيها، وأن حكمها الضمانُ كما يُضمن المغصوب، أو إخبار عن ضمانها بالأداء بعينها، ومعناه‏:‏ أنى ضامن لك تأديَتَها، وأنها لا تذهب، بل أردها إليك بعينها‏؟‏ هذا مما اختلف فيه الفقهاء‏.‏

فقال الشافعى وأحمد بالأول، وأنها مضمونة بالتلف، وقال أبو حنيفة ومالك بالثانى، وأنها مضمونة بالرد على تفصيل في مذهب مالك، وهو أن العَيْن إن كانت مما لا يُغاب عليه، كالحيوان والعَقار، لم تُضمن بالتلف إلا أن يظهر كَذِبه، وإن كانت مما يُغاب عليه كالحلى ونحوه، ضُمنت بالتلف إلا أن يأتىَ ببينة تشهد على التلف، وسر مذهبه أن العارية أمانة غيرُ مضمونة كما قال أبو حنيفة، إلا أنه لا يُقبل قوله فيما يخالف الظاهر، فلذلك فرَّق بين ما يُغاب عليه، وما لا يُغاب عليه‏.‏

ومأخذ المسألة أن قوله صلى الله عليه وسلم لصفوان‏:‏ ‏(‏بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ‏)‏، هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف‏؟‏ أى‏:‏ أضمنها إن تلفت، أو أضمن لك ردَّها، وهو يحتمل الأمرين، وهو في ضمان الرد أظهرُ لثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنَّ في اللَّفظ الآخر‏:‏ ‏(‏بَلْ عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ‏)‏، فهذا يبينُ أن قوله‏:‏ ‏(‏مضمونة‏)‏، المراد به‏:‏ المضمونة بالأداء‏.‏

الثانى‏:‏ أنَّه لم يسأله عن تلفها، وإنما سأله هل تأخذها منى أخذَ غصب تحولُ بينى وبينها‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا بل أخذ عارية أُؤديها إليك‏)‏‏.‏ ولو كان سأله عن تلفها وقال‏:‏ أخاف أن تذهب، لناسب أن يقول‏:‏ أنا ضامن لها إن تلفت‏.‏

الثالث‏:‏ أنَّه جعل الضمانَ صِفة لها نفسها، ولو كان ضمانَ تلف، لكان الضمانُ لِبدلها، فلما وقع الضمانُ على ذاتها، دل على أنه ضمانُ أداء‏.‏

فإن قيل‏:‏ ففى القصة أن بعض الدروع ضاع، فعرض عليه النبى صلى الله عليه وسلم أن يضمنها، فقال‏:‏ أنا اليوم في الإسـلام أرغبُ، قيل‏:‏ هل عرض عليه أمراً واجباً أو أمراً جائزاً مُستحَباً الأَوْلى فعلُه، وهو من مكارم الأخلاق والشيم، ومن محاسن الشريعة‏؟‏ وقد يترجح الثانى بأنه عرض عليه الضمان، ولو كان الضمان واجباً، لم يعرضه عليه، بل كان يفى له به، ويقول‏:‏ هذا حقُّك، كما لو كان الذاهب بعينه موجوداً، فإنه لم يكن ليعرض عليه رده فتأمله

فصل‏:‏ في جواز عقر فرس العدو

وفيها‏:‏ جوازُ عقرِ فرسِ العدو ومركُوبه إذا كان ذلك عوناً على قتله، كـما عقر علىُّ رضى الله عنه جمل حامل راية الكفار، وليس هذا مِن تعذيب الحيوان المنهى عنه ‏.‏

وفيها‏:‏ عفُو رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمن همَّ بقتله، ولم يُعاجله، بل دعا له ومسح صدره حتى عاد، كأنه ولى حميم ‏.‏

ومنها‏:‏ ما ظهر في هذه الغزاة من معجزات النبوة وآيات الرسالة، من إخباره لشيبة بما أضمر في نفسه، ومن ثباته، وقد تولَّى عنه الناسُ، وهو يقول‏:‏

أنَا النَّبِىُّ لاَ كَذِبْ أنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ

وقد استقبلته كتائبُ المشركين ‏.‏

ومنها‏:‏ إيصالُ الله قبضته التي رمى بها إلى عيون أعدائه على البُعْدِ منه، وبركتُه في تلك القبضة، حتى ملأت أعينَ القوم، إلى غير ذلك من معجزاته فيها، كنزول الملائكة للقتال معه، حتى رآهم العدوُّ جهرة، ورآهم بعض المسلمين ‏.‏

ومنها‏:‏ جوازُ انتظار الإمام بقسم الغنائمُ إسلامَ الكفار ودخولَهم في الطاعة، فيرد عليهم غنائِمَهَم وسبيَهم، وفى هذا دليل لمن يقول‏:‏ إن الغنيمة إنما تُملك بالقسمة، لا بمجرد الاستيلاء عليها، إذ لو ملكها المسلمون بمجرد الاستيلاء، لم يستأنِ بهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم لِيردها عليهم، وعلى هذا فلو مات أحد من الغانمين قبل القسمة، أو إحرازها بدار الإسلام، رُدَّ نصيبُه على بقية الغانمين دون ورثته، وهذا مذهب أبى حنيفة‏:‏ لو مات قبل الاستيلاء لم يكن لورثته شئ، ولو مات بعد القسمة فسهمه لورثته

فصل‏:‏ في ما أعطاه صلى الله عليه وسلم للمؤلَّفة قلوبهم

وهذا العطاء الذي أعطاه النبى صلى الله عليه وسلم لقريش، والمؤلَّفة قلوبُهم، هل هو مِن أصل الغنيمة أو من الخُمُس، أو من خُمس الخُمُس‏؟‏ فقال الشافعى ومالك‏:‏ هو من خُمس الخُمُس، وهو سهمُه صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له من الخُمس، وهو غير الصَّفىِّ وغيرُ ما يُصيبه من المغنم، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يستأذن الغانمين في تِلك العطية، ولو كان العطاءُ من أصل الغنيمة، لاستأذنهم لأنهم ملكوها بحوزها والاستيلاء عليها، وليس من أصل الخُمُس، لأنه مقسوم على خمسة، فهو إذاً من خُمس الخُمُسِ، وقد نص الإمام أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة، وهذا العطاءُ هو من النفل، نَفَلَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم به رؤوسَ القبائِلِ والعشائِرِ ليتألَّفهم به وقومَهم على الإسلام، فهو أولى بالجواز من تنفيل الثُلث بعد الخُمس، والرُّبع بعده، لما فيه من تقوية الإسلام وشَوْكته وأهله، واستجلاب عدوه إليه، هكذا وقع سواء كـما قال بعضُ هؤلاء الذين نفلهم‏:‏ لقد أعطانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الخلق إلىَّ، فما زال يُعطينى حتى إنه لأحب الخلق إلىَّ، فما ظنك بعطاءٍ قوَّى الإسلامَ وأهله، وأذلَّ الكفرَ وحِزبه، واستجلب به قلوبَ رؤوس القبائل والعشائر الذين إذا غضِبُوا، غَضِبَ لغضبهم أتباعهم، وإذا رَضُوا رَضُوا لرضاهم ‏.‏ فإذا أسلم هؤلاء، لم يتخلف عنهم أحدٌ مِن قومهم، فللَّهِ ما أعظمَ موقِعَ هذا العطاء، وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله ‏.‏

ومعلوم‏:‏ أن الأنفال لله ولرسوله يقسِمُها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسـلام العامة، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل، ولمَا عَمِيَتْ أبصارُ ذى الخويصرة التميمى وأضرابه عن هذه المصلحـة والحكمة ‏.‏ قال له قائلهم‏:‏ اعْدِل فإنَّكَ لم تعدل ‏.‏ وقال مشبِهُه‏:‏

إن هذه لقسمة ما أُريد بها وجه الله، ولعَمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله، ومعرفته بربه، وطاعته له، وتمام عدله، وإعطائه لله، ومنعه لله، ولله سبحانه أن يقسم الغنائم كما يحب، وله أن يمنعها الغانمين جملة كما منعهم غنائم مكة، وقد أوجفوا عليها بخيلهم وركابهم، وله أن يُسلِّط عليها ناراً من السماء تأكلها، وهو في ذلك كله أعدلُ العادلين، وأحكمُ الحاكمين، وما فعل ما فعله من ذلك عبثاً، ولا قدَّرَهُ سُدى، بل هو عَيْن المصلحة والحكمة والعدل والرحمة، مصدره كمال علمه، وعِزَّته، وحكمته، ورحمته، ولقد أتمَّ نعمته على قوم ردَّهم إلى منازلهم برسوله صلى الله عليه وسلم يقودونه إلى ديارهم، وأرضى مَن لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير، كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته، ويعطى العاقل اللبيب ما يناسبه، وهذا فضله، وليس هو سبحانه تحت حجر أحد من خلقه، فيوجبون عليه بعقولهم، ويُحرِّمون، ورسولُه منفِّذٌ لأمره ‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلو دعت حاجةُ الإمام في وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدوه، هل يسوغ له ذلك‏؟‏

قيل‏:‏ الإمام نائب عن المسلمين يتصرَّفُ لمصالحهم، وقيام الدين ‏.‏ فإن تعيَّن ذلك للدفع عن الإسلام، والذب عن حَوْزته، واستجلاب رؤوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم، ساغ له ذلك، بل تعيَّن عليه، وهل تُجوِّز الشريعة غير هذا، فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة، فالمفسدة المتوقَّعَةُ مِن فوات تأليف هذا العدو أعظمُ، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين ‏.‏‏.‏ وباللهِ التوفيق ‏.‏

فصل‏:‏ في جواز بيع الرقيق والحيوان بعضه ببعض

وفيها‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مَن لم يُطيِّبْ نَفْسَه، فَلَهُ بِكُلِّ فريضَةٍ ستُّ فرائض مِنْ أوَّل ما يفئ اللهُ عَلَيْنَا‏)‏‏.‏

ففى هذا دليل على جواز بيع الرقيق، بل الحيوان بعضه ببعض نسيئةً ومتفاضلاً‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏ من حديث عبد الله بن عمرو، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، وكان يأخذُ البعيرَ بالبعيرين إلى إبل الصَّدَقَةِ‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏ عن ابن عمر، عنهُ صلَّى الله عليه وَسلّم أنه نهى عن بَيْع الحَيَوانِ بالحيوان نسيئةً، ورواه الترمذى من حديث الحسن عن سمرة، وصحَّحه‏.‏

وفى الترمذى من حديث الحجاج بن أرطاة، عن أبى الزبير، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحَيَوَانُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لا يَصْلُحُ نَسِيئاً، ولا بَأسَ بِهِ يَداً بيدٍ‏)‏ قال الترمذى‏:‏ حديث حسن‏.‏

فاختلف الناس في هذه الأحاديث، على أربعة أقوال، وهى روايات عن أحمد‏.‏

أحدها‏:‏ جواز ذلك متفاضلاً، ومتساوياً، نسيئة، ويداً بيدٍ، وهو مذهب أبى حنيفة، والشافعى‏.‏

والثانى‏:‏ لا يجوز ذلك نسيئةً، ولا متفاضلاً‏.‏

والثالث‏:‏ يحرم الجمع بين النَّساء والتفاضل،ويجوز البيع مع أحدهما، وهو قولُ مالك رحمه الله‏.‏

والرابع‏:‏ إن اتحد الجنس، جاز التفاضُلُ، وحَرمَ النَّساء، وإن اختلف الجنس، جاز التفاضل والنَّساء‏.‏

وللناس في هذه الأحاديث والتأليفِ بينها ثلاثة مسالك‏:‏

أحدها‏:‏ تضعيفُ حديث الحسن عن سمرة، لأنه لم يُسمع منه سوى حديثين ليس هذا منهما، وتضعيفُ حديث الحجاج بن أرطاة‏.‏

والمسلك الثانى‏:‏ دعوى النسخ، وإنلم يتبين المتأخِّر منها من المتقدِّم، ولذلك وقع الاختلاف‏.‏

والمسلك الثالث‏:‏ حملُها على أحوال مختلفة، وهو أن النهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، إنما كان لأنه ذريعة إلى النسيئة في الربويات، فإن البائع إذا رأى ما في هذا البيعِ من الربح لم تقتصر نفسه عليه، بل تجره إلى بيع الربوى كذلك، فسدَّ عليهم الذريعة، وأباحه يدَاً بيدٍ، ومنع من النَّساء فيه، وما حُرِّم للذريعة يُباح للمصلحة الراجحة، كما أباح مِن المُزابنة العرايا للمصلحة الراجحة، وأباح ما تدعو إليه الحاجةُ منها، وكذلك بيعُ الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلاً في هذه القصة، وفى حديث ابن عمر إنما وقع في الجهاد، وحاجة المسلمين إلى تجهيز الجيش، ومعلوم أن مصلحةَ تجهيزه أرجحُ من المفسدة في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والشريعةُ لا تُعطِّلُ المصلحة الراجحة لأجل المرجوحة، ونظير هذا جوازُ لبس الحرير في الحرب، وجوازُ الخُيلاء فيها، إذ مصلحة ذلك أرجح من مفسدة لبسه، ونظيرُ ذلك لِباسه القَبَاء الحرير الذي أهداه له ملك ‏(‏أيلة‏)‏ ساعة، ثم نزعه للمصلحة الراجحة في تأليفه وجبره، وكان هذا بعد النهى عن لباس الحرير، كما بيَّناه مستوفًى في كتاب ‏(‏التخيير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير‏)‏، وبيَّنا أن هذا كان عامَ الوفود سنة تسع، وأن النهىَ عن لباس الحريركان قبلَ ذلك، بدليل أنه نهى عمر عن لبس الحُلة الحرير التي أعطاه إياها، فكساها عمر أخاً له مشركاً بمكة، وهذا كان قبلَ الفتح، ولباسه صلى الله عليه وسلم هدية ملك ‏(‏أيلة‏)‏ كان بعد ذلك، ونظير هذا نهيُه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة قبل طلوع الشمس، وبعد العصر، سداً لذريعة التشبه بالكفار، وأباح ما فيه مصلحة راجحة مِن قضاء الفوائت، وقضاء السنن، وصلاة الجنازة، وتحية المسجد، لأن مصلحة فعلها أرجح من مفسدة النهى‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

وفى القصة دليل على أن المتعاقدين إذا جعلا بينهما أجلاً غيرَ محدود، جاز إذا اتفقا عليه ورضيا به، وقد نص أحمد على جوازه في رواية عنه في الخيار مدة غير محدودة، أنه يكون جائزاً حتى يقطعاه، وهذا هو الراجح، إذ لا محذور في ذلك، ولا عذر، وكل منهما قد دخل على بصيرة ورضى بموجب العقد، فكلاهما في العلم به سواء، فليس لأحدهما مزية على الآخر، فلا يكون ذلك ظلماً

فصل‏:‏ في أنَّ مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه

وفى هذه الغزوة أنه قال‏:‏‏(‏مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُه‏)‏ وقاله في غزوة أُخرى قبلها، فاختلف الفقهاء، هل هذا السَلَب مُستحَقٌ بالشرع أو بالشرط‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن أحمد‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه له بالشرع، شرطه الإمامُ أو لم يَشرِطه، وهو قول الشافعى‏.‏

والثانى‏:‏ أنه لا يُستحَق إلا بشرط الإمام، وهو قول أبى حنيفة‏.‏ وقال مالك رحمه الله‏:‏ لا يُستحَق إلا بشرط الإمام بعد القتال‏.‏ فلو نص قبله، لم يجز‏.‏ قال مالك‏:‏ ولم يبلغنى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا يوم حُنَيْن، وإنما نفَّل النبىُّ صلى الله عليه وسلم بعد أن برد القتال‏.‏

ومأخذ النزاع أن النبى صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام، والحاكم، والمفتى، وهو الرسول، فقد يقول الحكمَ بمنصب الرسالة، فيكون شرعاً عاماً إلى يوم القيامة كقوله‏:‏ ‏(‏مَنْ أَحْدَثَ في أمْرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُو رَدٌّ‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏مَنْ زَرَعَ في أرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْع شَىءٌ، وَلَهُ نَفَقَتُهُ‏)‏، وكحكمه ‏(‏بالشَّاهدِ، واليمينِ‏)‏، و‏(‏بالشُّفعة فيما لم يُقْسَمْ‏)‏‏.‏

وقد يقول بمنصب الفتوى، كقوله لهِند بنتِ عُتبة امرأة أبى سُفيان، وقد شكَتْ إليه شُحَّ زوجِها، وأنه لا يُعطيها ما يكفيها‏:‏ ‏(‏خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ‏)‏ فهذه فتيا لا حكم، إذ لم يدعُ بأبى سفيان، ولم يسأله عن جواب الدعوى، ولا سألها البيِّنة‏.‏

وقد يقوله بمنصب الإمامة، فيكون مصلحة للأُمة في ذلك الوقت، وذلك المكان، وعلى تلك الحال، فيلزم مَن بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبى صلى الله عليه وسلم زماناً ومكاناً وحالاً، ومن ههنا تختلِفُ الأئمة في كثير من المواضع التي فيها أثر عنه صلى الله عليه وسلم كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ‏)‏ هل قاله بمنصب الإمامة، فيكون حكمه متعلقاً بالأئمة، أو بمنصب الرسالة والنبوة،فيكون شرعاً عاماً‏؟‏وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏مَنْ أَحْيا أرْضاً مَيتَةً فَهِىَ لَهُ‏)‏ هل هو شرع عام لكل أحد، أَذِنَ فيه الإمام، أو لم يأذن، أو هو راجع إلى الأئمة، فلا يُملك بالإحياء إلا بإذن الإمام‏؟‏ على القولين، فالأول‏:‏ للشافعى وأحمد في ظاهر مذهبهما‏.‏

والثانى‏:‏ لأبى حنيفة، وفرَّق مالك بين الفلوات الواسعة، وما لا يتشاح فيه الناس، وبين ما يقع فيه التشاح، فاعتبر إذن الإمام في الثانى دون الأول‏.‏

فصل‏:‏ في أنَّ دعوى القاتل أنه قتل كافراً لا تُقبل إلا ببيِّنة

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ‏)‏ دليل على مسألتين‏:‏

إحداهما‏:‏ أن دعوى القاتل أنه قتل هذا الكافِرَ، لا تُقبل في استحقاق سَلَبِهِ‏.‏

الثانية‏:‏ الاكتفاء في ثبوت هذه الدعوى بشاهد واحد من غير يمين، لما ثبت في الصحيح عن أبى قتادة قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حُنَيْن، فلما التقينا، كانت للمسلمين جولةٌ، فرأيتُ رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرتُ إليه حتى أتيتُه مِن ورائه، فضربتُه على حبل عاتقه، وأقبل علىَّ، فضمَّنى ضمَّة، وجدتُ منها ريحَ الموت، ثم أدركه الموتُ، فأرسلنى، فلحقت عمر بن الخطاب فقال‏:‏ ما للناس‏؟‏ فقلت‏:‏ أمر الله، ثم إن الناس رجعُوا، وجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ‏)‏، قال‏:‏ فقمتُ فقلت‏:‏ مَن يشهد لى‏؟‏ ثم جلست، ثم قال مثل ذلك قال‏:‏ فقمتُ فقلت‏:‏ مَن يشهد لى‏؟‏ ثم قال ذلك الثالثة، فقمتُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما لكَ يا أبا قتادة‏)‏‏؟‏ فقصصتُ عليه القِصَّةَ، فقال رجل من القوم‏:‏ صدق يا رسُول الله، وسَلَبُ ذلك القتيل عندى، فأرضه من حقه، فقال أبو بكر الصِّدِّيق‏:‏ لاهَا اللهِ إذاً لا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ مِن أُسْدِ الله يُقَاتِلُ عَنْ الله ورسوله، فيُعطيك سَلَبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏صَدَقَ فَأعْطِهِ إيَّاهُ‏)‏، فأعطانى، فبعتُ الدرع، فابتعتُ بهِ مخَرَفاً في بنى سلمة، فإنه لأوَّل مال تأثَّلْتُه في الإسلام‏.‏

وفى المسألة ثلاثة أقوال، هذا أحدها، وهو وجه في مذهب أحمد‏.‏

والثانى‏:‏ أنه لا بد من شاهد ويمين، كإحدى الروايتين عن أحمد‏.‏

والثالث وهو منصوص الإمام أحمد ‏:‏ أنه لا بُدَّ من شاهدين، لأنها دعوى قتل، فلا تُقبل إلا بشاهدين

وفى القصة دليل على مسألة أُخرى، وهى أنه لا يُشترط في الشهادة التلفظُ بلفظ‏:‏ ‏(‏أشهد‏)‏ وهذا أصح الروايات عن أحمد في الدليل، وإن كان الأشهر عند أصحابه الاشتراط، وهى مذهبُ مالك‏.‏ قال شيخنا‏:‏ ولا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراطُ لفظ الشهادة، وقد قال ابن عباس‏:‏ شهد عندى رجال مرضيون وأرضاهم عندى عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر، وبعد الصبح، ومعلوم‏:‏ أنهم لم يتلفظوا له بلفظ‏:‏ ‏(‏أشهد‏)‏، إنما كان مجرد إخبار، وفى حديث ماعز‏:‏ فلما شهد على نفسه أربع شهادات رجَمَه، وإنما كان منه مجرد إخبار عن نفسه، وهو إقرار، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إلَيْكَ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 166‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِماً بالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ إلى أضعافِ ذلك مما ورد في القرآن والسُّـنَّة من إطلاق لفظ الشهادة على الخبر المجرَّد عن لفظ‏:‏ ‏(‏أشهد‏)‏‏.‏

وقد تنازع الإمام أحمد وعلى بن المدينى في الشهادة للعشرة بالجنَّة، فقال على‏:‏ أقول‏:‏ هُم في الجنَّة، ولا أقولُ‏:‏ أشهد أنهم في الجنَّة‏.‏ فقال الإمام أحمد‏:‏ متى قلتَ‏:‏ هم في الجنَّة، فقد شهدتَ، وهذا تصريح منه بأنه لا يُشترط في الشهادة لفظ ‏(‏أشهد‏)‏‏.‏ وحديث أبى قتادة من أبين الحجج في ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ إخبار مَن كان عنده السَلَب إنما كان إقراراً بقوله‏:‏ هو عندى، وليس ذلك من الشهادة في شئ‏.‏ قيل‏:‏ تضمَّن كلامه شهادةً وإقراراً بقوله‏:‏ ‏(‏صدق‏)‏، شهادة له بأنه قتله، وقوله‏:‏‏(‏هو عندى‏)‏ إقرارٌ منه بأنه عنده، والنبى صلى الله عليه وسلم إنما قضى بالسَلَب بعد البيِّنة، وكان تصديق هذا هو البيِّنة

فصل‏:‏ في أن السَّلَب جميعه للقاتل

وقوله صَلى الله عَليه وسلم‏:‏ ‏(‏فَلَهُ سَلَبُه‏)‏، دليل على أنَّ له سَلَبُه كله غيرَ مخمَّس، وقد صرَّح بهذا في قوله لسلمة بن الأكوع لما قتل قتيلاً‏:‏ ‏(‏له سَلَبُهُ أَجْمَعُ‏)‏ ‏.‏

وفى المسألة ثلاثة مذاهب، هذا أحدها ‏.‏

والثانى‏:‏ أنه يُخمَّس كالغنيمة، وهذا قولُ الأوزاعى وأهل الشام، وهو مذهب ابن عباس لدخوله في آية الغنيمة ‏.‏

والثالث‏:‏ أن الإمام إن استكثره خمَّسه، وإن استقلَّه لم يُخمِّسه وهو قول إسحاق، وفعله عمر بن الخطاب، فروى سَعيد في ‏(‏سننه‏)‏ عن ابن سيرين، أن البَرَاء بن مالك بارز مرزُبانَ المرازبة بالبحرين، فطعنَه، فَدَقَّ صُلْبَه، وأخذ سِوارَيْهِ وسَلَبه، فلما صلَّى عمرُ الظهرَ، أتى البَرَاء في داره فقال‏:‏ إنَّا كنا لا نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وإن سَلَب البَرَاء قد بلغ مالاً، وأنا خامِسُه، فكان أوَّلَ سَلَبٍ خُمِّس في الإسلام سَلَبُ البَرَاء، وبلغ ثلاثين ألفاً، والأول‏:‏ أصح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُخَمِّسِ السَّلَب وقال‏:‏ ‏(‏هو له أجمع‏)‏، ومضت على ذلك سُنَّته وسُنَّةُ الصِّدِّيق بعده، وما رآه عمرُ اجتهاد منه أداه إليه رأيه ‏.‏

والحديث يدل على أنه مِن أصل الغنيمة، فإنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قضى به للقاتل، ولم ينظُرْ في قيمته، وقدره، واعتبار خروجه من خُمس الخُمس، وقال مالك‏:‏ هو من خُمس الخُمس، ويدل على أنه يستحقه مَن يُسهم له، ومن لا يُسهم له من صبى وامرأة، وعبد ومشرك ‏.‏ وقال الشافعى في أحد قوليه‏:‏ لا يستحق السَّلَب إلا مَن يستحق السهم، لأن السهم المجمَع عليه إذا لم يستحقه العبد والصبى، والمرأة والمشرك، فالسَّلَبُ أولى، والأول أصحُّ للعموم، ولأنه جار مجرى قول الإمام‏:‏ مَن فعل كذا وكذا، أو دلَّ على حصن، أو جاء برأس، فله كذا مما فيه تحريض على الجهاد، والسهم مُستحَق بالحضور، وإن لم يكن منه فعل، والسَّلَب مستحق بالفعل، فجرى مجرى الجعالة ‏.‏

فصل‏:‏ في أنه يستحق سَلَب جميع مَن قتله وإن كثروا

وفيه دلالة على أنه يستحق سَلَبَ جميع مَن قتله، وإن كَثُروا، وقد ذكـر أبو داود أن أبا طلحة قتل يوم حُنَيْن عشرين رجلاً، فأخذ أسلابهم ‏.‏